عن العربدة السياسية ومستقبل البرلمان التونسي

عن العربدة السياسية ومستقبل البرلمان التونسي

22 يناير 2020

كتلة الحزب الدستوري تمنع جلسة للبرلمان التونسي (8/11/2019/فرانس برس)

+ الخط -
تحيل العربدة، في المدوّنة المعجمية العربية، في بعض معانيها على الصخب والضوضاء والضجة والجلبة والخصام والشجار والنزاع وإيذاء الناس، وهذه الصفات ظهرت في البرلمان التونسي، في دورته الثانية التي انطلقت بعد الانتخابات التشريعية في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وأخذت طابعا سياسيا بامتياز. وهي مفارقةٌ أن يتحوّل البرلمان، وهو السلطة الأصلية، والمؤسسة الأهم في الدولة الوطنية المعاصرة، في صيغتها الديمقراطية التي تعطي الثقة للحكومات وتسحبها منها كلّما يقتضي الأمر ذلك، وتنتج القيم السياسية والقوانين والتشريعات، وتتولى مراقبة تطبيقها وعوامل فشلها ونجاحها، يتحوّل إلى حلبة عراكٍ مستمر في أثناء الجلسات العامة واجتماعات اللجان البرلمانية، ومضاد وعائق أمام هذه الوظائف النبيلة والسامية، بسبب بعض المكونات الحزبية التي لا تقبل بالعقد الاجتماعي والسياسي المنبثق عن الدستور التونسي لسنة 2014. 
يتعلق الأمر بالحزب الدستوري الحر الذي انبعث سنة 2013 على يد حامد القروي الوزير الأول الأسبق في فترة حكم زين العابدين بن علي (1987-2011)، بمسمّى الحركة الدستورية، قبل أن يحمل الاسم الحالي، بداية من سنة 2016، برئاسة عبير موسي، المحامية وإحدى القياديات النسائية في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، المنحل سنة 2011 بقرار قضائي. فاز الحزب الدستوري الحر بـ 17 مقعدا في الانتخابات التشريعية الثالثة من نوعها، والسادسة في مسار سياسي ودستوري يرمي إلى تثبيت مؤسسات الدولة القيادية المركزية والمحلية، ما مكّنه من الدخول إلى البرلمان وتشكيل كتلة برلمانية، على الرغم من عدم اعترافه بالثورة التونسية. ينسب الحزب الدستوري الحر نفسه إلى التجربة البورقيبية، ويعلن تبنّيه عقيدة فكرية ومنهجا في الفهم ومرجعية سياسية، مع محاولة الاستئثار بالإرث السياسي الدستوري بداية من تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي على يد الشيخ الزيتوني عبد العزيز الثعالبي سنة 1920. إلا أن هذا التعميم يخفي استبطانا للدونية، وخشيةً وتنصلا من الهوية السياسية الحقيقية، وهي الانتماء إلى تجربة "التجمّع الدستوري الديمقراطي" الذي بعثه بن علي سنة 1988 على أنقاض الحزب الاشتراكي الدستوري الذي كان يمثل امتدادا للحزب الحر الدستوري الجديد الذي أسّسه الحبيب بورقيبة سنة 1934، بعد أن انشق عن الحزب الحر الدستوري، المعروف بالحزب القديم الذي انبعث على يد عبد العزيز الثعالبي.
حكم بن علي وحزبه تونس بالحديد والنار 23 سنة، واستفرد فيها بالحكم، ومنع معارضيه من 
حقهم في التنظيم السياسي والحزبي وحرية الرأي والتعبير والتداول السلمي على السلطة، ومارس عليهم شتّى صنوف القمع والإرهاب والاعتداء والتعذيب والقتل والمطاردة والتهجير والمحاكمات الصورية، ونظم انتخاباتٍ مزيفةً تشريعيةً ورئاسية، وجعل من الحزب والدولة مجرّد أجهزة لخدمة الرئيس وعائلته وأصهاره الذين استولوا على ثروات البلاد وأرصدتها العقارية ومخزوناتها المالية، وحوّلوها إلى حساباتهم الخاصة في بنوكٍ أجنبية، قبل أن يستأثروا لأنفسهم بأدوار قيادية في "التجمع الدستوري" الحاكم، وفي المجلس التشريعي بغرفتيه، وبمختلف مراكز القرار في الدولة. ولم تسلم من السياسة القمعية لبن علي وتجمعه الدستوري أيّ من القوى السياسية المختلفة في الفكر والأيديولوجيا والتمثلات السياسية من القوميين والإسلاميين واليساريين واللبراليين، وحتى من الأحزاب والتنظيمات السياسية والشخصيات المعارضة ذات المنشأ الدستوري أو الحقوقي والنقابي، فقد كانوا جميعا مخيّرين بين الولاء لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي ورئيسه ومنظومته الأمنية والقمعية المهيمنة، والتمتع في مقابل ذلك بالسلم وعدم الإيذاء، أو ممارسة حقهم في الاختلاف السياسي والتعبير الحر عن أفكارهم وقناعاتهم وممارسة أدوارهم السياسية، كما يرتضونها لأنفسهم، ومن ثمّة تعريض أنفسهم للمضايقة والتتبع والانتهاكات والمحاكمات والسجون والحرمان من الحقوق وفقدان الحياة الآمنة.
دخل نواب الحزب الدستوري الحر البرلمان الديمقراطي المنبثق عن دستور 2014، حاملين معهم جينات الاستبداد والإقصاء التي ورثوها عن التجمع الدستوري الديمقراطي، الذي لم يكن يقبل بالآخر السياسي، ويرفض مبدأ العيش السياسي المشترك معه، مشكّلين، منذ البداية، ما يشبه "الفيتو" السياسي، رافضين التعايش والحوار والتنسيق وتبادل وجهات النظر مع غيرهم من الأحزاب والكتل، بما في ذلك القوى السياسية ذات المنشأ الدستوري، وبلغ بهم الأمر اجتناب مجالسة زملائهم من الأحزاب الأخرى، ورفض مصافحتهم وإلقاء السلام عليهم وتجنّب الحديث إليهم، مستبطنين ثقافةً عربيةً عتيقةً مارستها قبيلة قريش تجاه ذوي قرباهم من بني هاشم، عندما أرادت وأد الرسالة المحمدية في المهد.
ومنذ الجلسة العامة الأولى لمجلس نواب الشعب، في دورته النيابية الجديدة المنعقدة في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أبدى نواب الحزب الدستوري الحر نوعا من التفرّد عن بقية 
النواب، برفضهم أداء اليمين في صيغته الجماعية، وانسحبوا من الجلسة العامة مستشيطين غضبا إلى أن مُكّنوا من أداء القسم منفردين. وفي مطلع شهر ديسمبر/ كانون الأول من السنة المنقضية، في أثناء مناقشة الميزانية التكميلية للدولة، دخلت رئيسة "الدستوري الحر" وأفراد كتلتها في اعتصام في قاعة الجلسات العامة دام عدة أيام، واحتلت كرسي الرئاسة، في اختراق صريح للقانون الداخلي للمجلس، بسبب خصومةٍ سياسيةٍ مع نائبة من حركة النهضة وصفتها "بالكلوشارة" (المتشرّدة) و"الباندية" (البلطجية)، ما أدخل المجلس في حالة عطالةٍ وعجزٍ واحتقانٍ وسبابٍ وتنابزٍ وتوترٍ وصراعاتٍ متجدّدة وتبادل للتهم بين كتلتي "النهضة" ومن والاها من جهة وكتلة "الدستوري الحر" من جهة أخرى. وتكرّر هذا المشهد المزري في الجلسة العامة ليوم 15 جانفي /يناير الجاري، عندما رفضت كتلة "الدستوري الحر" تلاوة الفاتحة على أرواح شهداء الثورة التونسية، وآثرت الانسحاب من القاعة، ما أدى إلى حالة غليان وفوضى عارمة، تلتها عملية تعبئة سياسية وحشد شعبي لعائلات الشهداء الذين التحقوا بتخوم مجلس نواب الشعب وبمقرّه، ووجدوا أنفسهم في مواجهةٍ مباشرةٍ مع رئيسة "الدستوري الحر" التي لم تتردّد في استفزازهم ولعب دور الضحية تجاه ردود أفعالهم.
أظهرت الأزمات المتكرّرة التي يعيشها البرلمان التونسي، وتعطيل عمل مؤسسته الرئيسية، وهي 
الجلسة العامة، ومنع النواب من أداء دورهم في التشريع ومراقبة الحكومة، من الحزب الدستوري الحر ورئيسته، وحقدا دفينا، ومحاولةً لنشر الفوضى، وعربدة متكرّرة، وعدم اعترافٍ بالنظام السياسي شبه البرلماني، والمؤسّسات المنبثقة عن الثورة التونسية ودستور سنة 2014، من هذا الحزب، والعمل على إجهاض التجربة برمتّها، وتبرير ذلك بصراعه مع حركة النهضة ورئيسها وحليفها ائتلاف الكرامة، ناعتا إياهم بـ"الخوانجية". والحال أن هذا السلوك السياسي الذي تحوّل إلى ناموس عمل، وطريقة ظهور، وتسويق للذات الحزبية، المعتمد من رئيسة الحزب الدستوري الحر، يستهدف المجلس برمّته، والحكومات المنبثقة عنه وكل القوى السياسية المؤمنة بفكرة الثورة التونسية، والانتساب إليها، واعتمادها مرجعية سياسية وأخلاقية. ويستغل الحزب الدستوري الحر ضعفا وفراغا في التشريعات الردعية والإجراءات الزجرية المفترض أن تسلط عقوباتٍ على كل من يعمل على تعطيل عمل السلطة الأصلية في تونس، أي المجلس التشريعي، إذ يكتفي النظام الداخلي للبرلمان التونسي، في فصله عدد 131، بحرمان النواب الذين يعطّلون أعمال الجلسة العامة من أخذ الكلمة ثلاث جلسات متتالية من دون حرمانهم من التصويت، وبأن يأمر رئيس المجلس بإخراج كل شخص يخلّ بالنظام داخل الجلسة، وفق الفصل 132. ولكن رئيس مجلس نواب الشعب لم يستطع تطبيق هذه الفصول، على محدودية أثرها، والحيلولة دون انتشار الفوضى والعربدة في الجلسات العامة، ومطالبة الأمن الرئاسي، وهو المؤتمن أمنيا على حماية البرلمان، للقيام بوظيفته، الذي طالب باستصدار أمر من رئيس الجمهورية، قيس سعيد، في الغرض، والذي رفض أي تدخل أمني لفض النزاعات داخل الجلسة العامة، ونصح بالتوجه إلى وكيل الجمهورية (النيابة العمومية)، الذي رفض كذلك هذا الإجراء، لأن البرلمان يمثل سلطةً بذاتها، مستقلةً عن السلطة القضائية، وأن النائب يتمتع بالحصانة الدستورية، ولا يمكن المساس به. وهكذا دخل البرلمان التونسي في حلقة مفرغة تهدّد مستقبله واستمراريته، ناتجة عن عدم قدرة رئيسه على إدارته، وتطبيق ما ورد في النظام الداخلي في حدّه الأدنى، ما اضطرّه إلى الغياب المتتالي عن تسيير الجلسات العامة، وترك الأمر إلى نائبيْه. فهل تُجمع الكتل البرلمانية التونسية المناوئة للعربدة والفوضى السياسية على وضع ميثاقٍ أخلاقيٍّ وقانونٍ منظّم لعمل البرلمان، وخصّه بجهاز أمني يستمد شرعيته من المجلس نفسه، ويأتمر بأوامره، وحتى لا يترك مصير السلطة التشريعية في مهبّ الريح؟