جمال خاشقجي.. هيبة السلطة الرابعة

جمال خاشقجي.. هيبة السلطة الرابعة

30 أكتوبر 2018
+ الخط -
وسط مشاعر مفعمة بالألم والغضب، ضاعفتْها التسريبات المتدفقة على مدار الساعة حدّةً، وفاقمتها التفاصيل المروّعة جزعاً، إزاء جريمة قتل الكاتب الصحافي جمال خاشقجي غيلةً، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تخلّق في خضم هذه الانفعالات حسٌّ موازٍ لدى الكتاب والصحافيين العرب، لم يُجاهر به أحد، ولم يجر على طرف لسانٍ بعد، قوامُه الاعتزاز بالنفس أولاً، والافتخار بمهنة الكتابة ثانياً، جرّاء كل هذا الاهتمام غير المسبوق، وكل هذه التغطية الهائلة، لمصير واحدٍ من زملائهم المجلّين، من أبناء مهنة الصحافة التي كانت، حتى الأمس القريب، مجرّد "كلام جرايد" يُستخف بها، ولزوم ما يلزم من مكملاتٍ ثانويةٍ في الحياة السياسية العربية. فقد شكلت جريمة قتل جمال خاشقجي، بكل تداعياتها التي لم تتوقف بعد، نقطةً فاصلة بين زمنين عربيين مختلفين (ما قبل واقعة جمال وما بعدها)، وفاض سيلُها العرم إلى مطارح أبعد من حدود المكان والزمان المتصلين بالواقعة الوحشية، حيث استردّت السلطة الرابعة، في بلادنا، مكانتها الرفيعة كاملةً غير منقوصة، أو هي في سبيلها إلى ذلك من دون ريب. واكتسبت مهنة المتاعب، بهذه الفعلة الشنيعة، قوة دفعٍ ذاتيٍّ استثنائية، أحسب أنها قادرةٌ على اقتحام الموانع، واجتياز المصاعب، وفضّ الالتباسات والسيادات والرمزيات والمحرّمات، وغير ذلك مما ظلّت السلطات الأوتوقراطية تتسربل به، من تحت الطاولة ومن فوقها، لكبح أداة المساءلة هذه، المحترمة في المجتمعات الديمقراطية، ومنعها من أداء رسالتها التنويرية، والقيام بواجباتها الرقابية.
إذ أدّى اشمئزاز الرأي العام في مختلف أنحاء الدنيا من جريمة قتل صحافيٍّ مسالم بدم بارد، وعدم تسامح الشرق والغرب، ربما لأول مرة، إزاء مثل هذه الفعلة المدانة بلا أي تحفّظ، إلى انتهاء زمن موت الصحافيين في الأقبية، أو على قارعة الطريق بصمتٍ مطبق، والإفلات من العقاب بصورة تلقائية، واستسهال وصف ذوي الأقلام الحرة عملاء ومأجورين، مكانهم القبر أو السجن. كما أدت المواقف الدولية الرافضة التستر على الواقعة الفظيعة، بما في ذلك التهديد بالحجر والنبذ والمقاطعة، إلى إيجاد بيئةٍ سياسيةٍ جديدةٍ رادعة، ستتعمّق من الآن فصاعداً، لكل مستبدٍّ قد يستهين بحياة ناشطٍ أو إعلامي أو صاحب وجهة نظر معارضة، لا سيما في هذه المنطقة التي تضيق فيها صدور أولي الشأن بالرأي الآخر، ولا تتورّع عن اتهامه بالعمالة.
وليس من شكٍّ في أن دماء جمال خاشقجي قد أيقظت الضمائر من سباتها العميق، وهزّت العالم هزّة ارتداديةً لا سابق لها، إن لم نقل إنها قد زلزلت الأرض تحت أقدام من توهموا أنهم قادرون على شراء الصمت بأي ثمن، وتمرير المسألة مع مرور الوقت وكأن شيئاً لم يكن. وليس من المبالغة أيضاً القول إن هذا الكاتب السعودي الدمث قد حقّق بموته أكثر بكثير مما كان يطمح له ويرجوه في حياته، وإنه قد تحوّل، من دون رغبة منه، إلى حادٍ لقوافل المبحرين، من دون دليل، في صحراء الصحافة العربية القاحلة، أو قل بات علماً خافقاً في أعلى السارية، يشير إلى اتجاه الريح لكل ذي قلمٍ حائرٍ بين أفضليات التحليق في فضاء الربح الأدبي، والأبدي، وبين العوم في مياه برك المصالح النفعية الآسنة.
وهكذا، غدت مظلومية جمال خاشقجي بمثابة رافعةٍ كبرى من روافع زمن تأسيسيٍّ جديد في هذه البلاد الممتدة من الماء إلى الماء. وبفضل حرارة دمائه البريئة، امتلكت الصحافة العربية هيبةً مستحقةً لها منذ وقت طويل، وباتت أكثر مضاءً من ذي قبل، يُحسب لها الحساب، ولا يقعقع لها بالشنان بعد الآن، صحافة وإعلامٌ جديرٌ باسمه أكثر من أي وقت مضى. كما نال الصحافيون العرب، بالنتيجة الأولية، مكانةً أرفع، وانتزعوا لأنفسهم، بفعل التنديد العالمي الكاسح بالجريمة، ضمانةً أقوى ضد القمع والمصادرة والإسكات، ضمانةً لم تكن متاحةً حتى الأمس القريب، الأمر الذي سيصدح فيه صوتهم، منذ اليوم، أبهى وأنقى وأجرأ مما كان عليه الحال، وذلك كله بفضل صاحب الفضل، زميلنا الغائب الحاضر جمال خاشقجي، لروحه الرحمة والتحية والسلام.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي