في حب نهاد قلعي

في حب نهاد قلعي

24 أكتوبر 2014

نهاد قلعي (1928 - 1993)

+ الخط -

أحسن قسم المنوعات في (العربي الجديد) كثيراً، في استذكاره، أول أمس الأربعاء، الراحل نهاد قلعي. فقد أضاء الزميل ماهر منصور على إبداع هذا الفنان العبقري، كما وصفه عن حق. وأُعقّب، هنا، بأن الصحافة الفنية العربية ظلمته، وأساءت الفضائيات العربية، الأكثر من الهمّ على القلب، لنفسها في تناسي هذا الرائد. وليس لأنني "دقة قديمة"، أتحمّس، هنا، لنهاد قلعي، بل للمنجز البهيج الذي أحدثه، رحمه الله، في المسرح والدراما السوريين. وأترابي كثيرون في هذا الحماس، وفي مقدمتهم صديقي الأثير، الناقد بشّار إبراهيم، والذي يعدّ جهده في توثيق تجربة الفنان الكبير (غاب قبل 21 عاماً) الأميز والأوفى، وقد أفاد منه منصور في مقالته.
لقائل أن يقول إنها نوستالجيا تقليدية تقيم فينا، نحن البشر، ولا سيما العرب، تجاه الماضي والسابق، ولو كان الرائق فيه مجرد فرجة على مسلسل تلفزيوني بالأبيض والأسود، أو ظرافة معلم في مدرسة ابتدائية. غير أن حسني البورزان (أو البورظان) في مسلسل (صح النوم)، لم يكن إبداعاً وحيداً لنهاد قلعي، عندما التصقت به هذه الشخصية التي ابتكرها، فقد كان الرجل من كتب ذلك المسلسل التلفزيوني الذي احتل مساءاتٍ وديعة لملايين العرب في سبعينياتٍ مضت، في سورية والأردن والخليج ولبنان بشكل أكثر. لم يكمل البورزان مقالته في المجلة التي يعمل فيها، طوال حلقات العمل، بسبب المقالب الثقيلة التي ظل يستهدفه بها غوار الطوشة (دريد لحام)، ليحول دون زواجه من فطوم حيص بيص. وفي نهاية المسلسل (سذاجاته جميلة أيضاً)، تسنح الفرصة، ويُسجن غوّار، إلا أن ياسين هو من يظفر بالزواج من فطوم، صاحبة الفندق في "حارة كل مين إيدو إلو".
الحدوتة البسيطة هذه، تصنعها شخصياتٌ شامية، أو (كاركترات) خالدة في الدراما التلفزيونية العربية. لا يعود الشعور، هنا، بحنينٍ ما إليها إلى إتقان الظرافة في بنائها وللفرحة الطفولية بها فقط، بل ربما أيضاً، لأن ما يُبهج في مصنوعات التلفزات العربية قليل. يحدث أن تعثر على عملٍ جذابٍ ومتقنٍ بين سنةٍ وأخرى، أو عقدٍ وآخر، غير أنك لا تقع على لذعة الحرارة الحميمة في أجواء نهاد قلعي في (صح النوم) وأعماله الفكاهية غير القليلة، ولا تصادفك مثل تلك اللذعة في أعمالٍ وفيرة، لبعضها قيمته من سورية ومصر. ربما توطَّن فينا يباسٌ وجفافٌ مهولان، نحن النظّارة العرب، من فرط الخراب الوفير حوالينا وقدّامنا، والذي لم يعد يقتصر على أوطانٍ وعواصم وحواضر، بل صار يتفشى في مجتمعاتٍ وبيئاتٍ في غير مطرح. لا تتصل المسألة بأن العجب لم يعد يعجبنا، بل بأنَّ فرادةً من طراز نهاد قلعي لا أظن أن الحياة الفنية العربية عرفت مثلها في الثلاثين عاماً الماضية، مع التقدير لعطاءاتٍ محمودةٍ هنا وهناك.
موظفُ الجمارك الذي أحبّ المسرح، ثم احترفه، وصار مديراً للمسرح القومي في سورية، وتهيّب منه، أول مرة، التقاه فيها دريد لحام، قبل أن يصيرا ثنائياً شهيراً، أبدع أعمالاً قصيرة واسكتشات وتمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وابتكر شخصيات خاصة، وأدى أدواراً عديدة في أفلامٍ وهزلياتٍ ومسرحيات (بعضها مع لبنانيين ومصريين)، ثم أنجز "ضيعة تشرين" وغيرها. وأميز ما في هذا الأرشيف، الموجز هنا، أنّ صاحبه تعددت مواهبه وقدراته، (كتب للأطفال أيضاً)، ودلَّ، في كثيرٍ منه، على سعةِ مخيلته ونباهة سليقته.
إذا أَردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، علينا أن نعرف ماذا في البرازيل... كانت هذه جملةً أولى في مقالة حسني البورزان التي لم تكتمل. تُراها، هذه المقالة، تقع في شططٍ إذا اكتملت بالقول إننا إذا أردنا أن نعرف ماذا في سورية، موطن نهاد قلعي، علينا أن نعرف ماذا في إيران، مثلاً؟ 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.