"يجعلها عَمَار" من دون الأسد

"يجعلها عَمَار" من دون الأسد

03 يناير 2021
+ الخط -

تداولت وسائل التواصل الاجتماعي، قبل مدة قصيرة، نشيداً كان محمد عبد الوهاب قد لحنه وغناه برفقة المجموعة، بعنوان "يجعلها عَمَار"، يرد فيه ذكر حافظ الأسد، مع أن السياق العام للنشيد وطني النزعة، يمتدح سورية، ويصفها بأنها أرض بلدنا، وأرض جدودنا، وأرض ولادنا، ومهد حضارتنا، ونبض حياتنا .. ولكنه ينحدر فجأة إلى القاع فيقول: يد وهبها الله لينا، يد الأسد اللي بيحمينا، حافظ عهده، والله يساعده، ويجعلها عمار.. 

أحدث هذا السماعُ المتأخر ذلك النشيدَ القديم لدى معظم السوريين المكتوين بنار حافظ الأسد نوعاً من الامتعاض، فحافظ لم يحمهم، كما جاء فيه، وإنما نقلت ديكتاتوريتُه المتوارثةُ سوريةَ، خلال نصف قرن، من الازدهار و(العَمَار) إلى الموت والخراب والإفلاس والجوع والمديونية .. والغريب أن معظم الذين زعلوا من عبد الوهاب لم يهتموا لمعرفة اسم مؤلف النشيد، وهو غير معروفٍ على كل حال، لأن المزعج، بالنسبة إليهم، أن يسفّ المطرب الموسيقار الكبير الذي يعشقونه إلى مستوى مديح طاغية سفاح .. 

يتناقض هذا الأمر، من جهة أخرى، مع ما عُرف عن عبد الوهاب من اهتمام بالعمق الحضاري لوطنه مصر، بدليل أنه أقام، برفقة الشاعر أحمد فتحي، سنة 1941، أكثر من شهرين، بالقرب من معبد الكرنك، يتنشقان عبق التاريخ، استعداداً لإبداع القصيدة الخالدة "الكرنك"، وتقديمها بأجمل الألحان. وكان عبد الوهاب قد غنى، احتفالاً بمعاهدة سنة 1936، أغنية "حب الوطن فرض عليا، أفديه بروحي وعينيا" .. وغنى، كذلك، للنهر الخالد، والجندول، وكليوباترة، وغازل الفلاح المصري برائعته "محلاها عيشة الفلاح"، إضافة إلى أنه غنّى قصيدة علي محمد طه "أخي جاوز الظالمون المدى" التي تنتصر للإنسان الفلسطيني المظلوم، وقصيدة "دعاء الشرق" المتضمنة كل معاني التحرّر والإخاء والعمل والبناء والتطلع إلى المستقبل .. وحينما أراد أن يغني ممتدحاً القومية العربية، أنجز عملاً ملحمياً كبيراً بعنوان "وطني حبيبي الوطن الأكبر" ظهر خلاله قائداً لأوركسترا ضخمة، فيها مجاميع كبيرة من العازفين والجنود والكشّافة والكورال وحاملي الورود والرايات وأعلام مصر، ويحتشد لها أكابر مطربي ذلك العصر ومطرباته، من عبد الحليم حافظ إلى صباح، وفايدة كامل، وشادية، ووردة الجزائرية، ونجاة الصغيرة .. ومن أغانيه القديمة، 1925 "على يوم ما أخدوني الجهاديه، وقرايبي يبكوا حواليه، شافوني لابس بدلة جهيدي، والبندقية شايلها بإيدي، أبوي قالي عاجبك يا سيدي، ما رضيتش تدّي البدليه". وفي أغنية الجهادية أيضاً، أنهم جاؤوه بطفله الوليد، لكنه أشاح عنه، خشية أن يضعف أمام تأدية واجبه تجاه الوطن. 

ثمّة سببان جوهريان يحملاننا على أن نغفر هذه السقطة لموسيقار الأجيال، أولهما أنه مبدع عبقري لم يكن ذا تأثير محلي صرف، فقد ملأت الألحان التي غنّاها بصوته، أو بثّها في حناجر مطربين كثيرين، ذاكرتَنا ووجدانَنا بأجمل الأغاني، والمعاني .. ومع أن أحد ألقابه كان "مطرب الملوك"، إلا أنه لم يتمادَ في مديح الملوك والحكام، وثانيهما يقينُنا أن الأغاني التي تحمل أيديولوجيا سياسية، أو أفكاراً ذات طبيعة آنية، يسقطها الزمن على نحو تلقائي، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا، فعشاق أم كلثوم، مثلاً، حينما يتشاورون في انتقاء أغنيةٍ ليسمعوها، تراهم حائرين بين "الأطلال" و"الآهات" و"فات الميعاد" و"الأولة في الغرام"، يستحيل أن يقترح أحدهم سماع أغنية "أصبح عندي الآن بندقية" .. ومحبو سيد مكاوي يستمعون "ليلة مبارح ما جانيش نوم بصوته"، ويطربون لأغنية "اسأل مرة علي" التي لحنها لعبد المطلب، أو "همس الحب" لشادية، وقلّما يعرف أحد منهم أن له أغنية كتبها صلاح جاهين يوم العدوان على بورسعيد 1956، عنوانها "ح نحارب"، وكان تسجيلها يتطلب عدداً كبيراً من عناصر الكورس، ولكنهم لم يأتوا بسبب القصف، فاضطر لأن يجمع موظفي الإذاعة ليقوموا بدور الجوقة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...