وطن بلا أوكسجين

وطن بلا أوكسجين

21 مارس 2021
+ الخط -

عندما ينفد مخزون الأوكسجين من أسطوانة الحياة، يصبح التحليل الهادئ ضرباً من العبث، ويغدو الهذيان سيّد المشهد: غليان واحتقان، وهرولة إلى أقرب مشجبٍ للتخلص من معطف العار الذي يثقل الأكتاف.

هذا ما حدث بالضبط عقب فاجعة مستشفى السلط الأردني، الذي شهد، قبل أيام، فجيعةً وطنيةً جديدة، تكدّست فوق ما سبقها من فواجع، نتيجة انقطاع الأوكسجين عن غرف العناية الحثيثة، ما أدّى إلى وفاة تسعة مرضى، فاهتزّ الشارع غضباً، وراح الجميع يحمّل المسؤولية لأشخاص بعينهم، تماماً كما حدث في فجيعة طوفان البحر الميت التي أودت بحياة باقة من أطفال المدارس قبل نحو عامين، ثم تمخّضت الحمّى عن تشكيل لجان عدة، حكومية ونيابية، للتحقيق في الحادثة، والمخرجات معلومة بالطبع؛ لأن المقدّمات التي استندت إليها هذه اللجان لا تزال هي نفسها التي لاذت بها سابقاتها، ولن تتعدّى التوصيات تحميل أسباب الفجيعة إلى بضعة أشخاص، نتيجة الإهمال، منهم مسؤولون أطيحوا فعليّاً قبل بدء التحقيق حتّى، على شاكلة وزير الصحة.

ذلك محسومٌ بحكم الخبرة، فقد كان أقصى ما طالب به الشارع، وبعض النواب، إقالة حكومة بشر الخصاونة بطاقمها كلّه، ثمّ انفضّ الجمع إلى دوامة حياته، متحللاً من عذاب الضمير الذي نغّص عليه جزءاً من يومه المؤجر للشّخير. غير أن أحداً منهم لم يكلّف نفسه عناء النظر إلى الأسطوانة الصغيرة التي يحملها على ظهره من دون أن يشعر، والتي يوشك الهواء المحسوب عليه بالعدّاد أن ينفد تماماً.

لا أحد قال إن مسؤولية مثل هذه الفواجع يتحمّلها الجميع، شعباً ونظاماً، لا حكومات فقط، فالشعب الذي لا يحرّكه السطو على هواء حرّيته لا يحقّ له أن يُحاسب أحداً على أيّ تقصير مهما استفحل شأنه. وإنّ من يطالب بتغيير الحكومة كمن يطالب بتغيير لون كيس البضاعة لا البضاعة نفسها التي تباع له في كل تشكيل وزاريّ مهما بدا جديداً، وإنّ من يطالب بالمساءلة الحقيقية ينبغي أن يدرك أنها جزءٌ من منظومة ديمقراطيّة متكاملة لا تتجزأ، ولا تتوافر في بلد يتعامل مع الديمقراطية كديكور خارجيّ لمخاطبة دول العالم "الأول" فقط، لكنها ديمقراطية غير نافذة في نسيج البيت وقواعده.

لا يحق لمن يستقبل نبأ إعدام أكبر نقابة مهنية في بلده بحياد بالغ أن يحاسب مسؤولاً عن نفاد مخزون أوكسجين في مستشفى؛ فقد كان الأولى به قبل ذلك أن يحاسب نظاماً لا يقف احتراماً وتبجيلاً للمعلم وحقوقه. ولا يحق لمن لا يزال يخشى الانخراط في العمل الحزبي بوصفه رافعة العمل السياسي أن يتساءل كيف نفد الهواء، لا من مستشفى واحد بل من جغرافية عربية كاملة. ولا يحق لشعوب لم تزل تلوذ بقبائلها وعشائرها عند كل شاردة وواردة، حتى في الانتخابات النيابية التي يفترض أن تقوم أساساً على حرية الإرادة، أن تطالب بـ"تحقيق مستقل"؛ لأن فكرة الاستقلال أيضاً مقترنة بالحريات التي نفتقدها. ولا يجوز لمن لا يعرف عدد معتقلي الرأي في بلده أن يبدي أي رأي في هذه الحادثة وغيرها. ولا يحقّ لمن ينفتح قوس حياته وينغلق على المحسوبيات والواسطات والجهويات، تعليماً وتوظيفاً، أن يسأل كيف أُنيطت مسؤولية مستشفى بهذا الرهط الفاسد؛ لأن الفساد غدا منظومة متغلغلة في النسيج السياسي، والاجتماعيّ، ويعدّ في أوساط شعبية كثيرة نوعاً من "الشطارة" و"الفهلوة"، والقدرة على تمييز الجهة الأنسب لأكل "الكتف".

في الخلاصة، لا يحق لأحد أن يسأل أحداً في الأردن عن أي تجاوز، فالكل مذنب، إما بالاشتراك المباشر أو التواطؤ أو غضّ الطرف، وحريّ بالجميع أن يتفقّد، عوضاً عن هذا الهيجان، أسطوانة هوائه التي يدفع لقاءها ضرائب أطول من حياته، وأن يتأكّد من حزمة الخراطيم المشتبكة بجسده في غرف الإنعاش قبل نفاد آخر جرعة من حرياته.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.