وصفة لتفتيت الدولة

02 مايو 2025

(فاتح المدرّس)

+ الخط -

تراجعت في سورية أفراح نشوة الانتصار ورحيل بشّار الأسد، وظهرت الكارثة فراغاً كبيراً في السياسة والأمن والمجتمع، أخذه السوريون بحسن نيّة، فيمكن للفراغ أن يعطي مساحةً واسعةً لبناء دولة جديدة على أسس متينة، بدلاً من بنائها على الأساسات الهشّة نفسها، والقابلة للسقوط في أيّ لحظة. بناء الدولة الوطنية الديمقراطية هو أوّل الأحلام التي عادت إلى الظهور، ما جعل كثيرين من الديمقراطيين، والمدنيين السوريين، يقفون بجانب سلطة الأمر الواقع، المتمثّلة بهيئة تحرير الشام، ويتغاضون عن تاريخها الجهادي العُنفي في سورية، خصوصاً بعد التطمينات التي قدّمها قائدها، الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، للسوريين وللخارج، في حواراته وخطاباته المقتضبة، التي أظهر فيها تغيّراً في خطابه القديم لصالح خطاب وطني جامع كان يمكن التأسيس عليه للبدء في عملية بناء الدولة الوطنية.
في بلدٍ مثل سورية، خرج من حرب أهلية قامت في أثر ثورة شعبية، يجب أن يبدأ بناء دولة وطنية من إعادة تشكيل هُويَّة وطنية جامعة، بها تُتجاوز الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية، ورغم أن شروط تحقيق ذلك صعبة وطويلة الأمد، إلا أنه كان يفترض أن تكون لها الأولوية في أيّ خطّة تضعها السلطة، التي منحت نفسها شرعيةً ثوريةً وسلطةً، وكان عليها أن تقرن أقوالها بأفعال حقيقية في الأرض تُبيّن من خلالها حسن نيّتها في التعامل مع ملفّ الدولة الوطنية، حلم السوريين كافّة، لا سيّما منهم أولئك الذين خرجوا في 2011 مطالبين بالتغيير الديمقراطي وبالعدالة وبالهُويَّة الوطنية الجامعة ضدّ الإقصاء والتهميش. كان يفترض بها لذلك أن تضع (منذ وصولها إلى قصر الرئاسة)، خطّةً سريعةً للبدء بالعدالة الانتقالية، الضامن الوحيد (والأول) للسلم الأهلي الذي هو الضامن الوحيد (والأول) للدولة الوطنية.
أثبتت مجازر الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي أن ما تقوله السلطة في أعلى مستوياتها شيء، وما يحدُث في الأرض من أفعال شيء آخر تماماً. لن ينفي أحد نظرية الفلول، ذلك أن الفوضى في سورية هي مطلب جهات عديدة، لكن الفلول في النهاية حركة عسكرية ينبغي التصدّي لها عسكرياً. إعلان النفير الجهادي، وتسليح المدنيين، وإعطائهم والفصائل (يفترض أنها منضوية في وزارة الدفاع) ضوءاً أخضرَ لارتكاب المجازر بحقّ المدنيين والآمنين من العلويين، هو وصفة لتدمير أساسات الدولة كلّها، ولتفتيت ما تبقّى من أواصر المجتمع السوري المنهك أصلاً. كان يمكن اعتبار تلك المجازر خطأً كبيراً، وسوءَ تقدير من السلطة الحاكمة، خصوصاً أن ذلك ساهم في منع رفع العقوبات عن سورية، لولا أن الحكاية ذاتها تعاد في هذه الأيام مع الدروز، في جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا (مناطق تبعد عن مركز العاصمة أقلّ من 15 كيلومتراً). أمّا الذريعة هذه المرّة فهي تسجيل ملفّق ينسب لشيخ درزي يسيء فيه إلى الرسول الكريم، ما جعل جموع المتطرّفين في سورية في حالة من الهيجان غير المبرّر (خصوصاً بعد فضح حقيقة التسجيل الملفّق وصدور بيانات درزية تتبرّأ منه) فيعتدون على طلاب دروز في الجامعات، يضربون ويطردون، يخرجون في مظاهرات طائفية مسلّحة لا تمنعها السلطة الحاكمة، تحاصر فصائل (متطرّفة) يفترض أنها تابعة لوزارة الدفاع، كما يصرّح وزير الخارجية السوري في الأمم المتحدة، المناطق ذات الغالبية الدرزية، تمنع سيّارات الهلال الأحمر من إنقاذ المصابين، يتصاعد خطاب الكراهية في وسائل التواصل... يحدث ذلك كلّه من دون أيّ تدخّل من السلطة الحاكمة لوقف مجزرة طائفية جديدة واضحة المعالم، ومن دون أن تعترض أو تضع حدّاً لما يحدث، ومن دون أيّ تدخّل من أركانها لمنع التحريض الطائفي وتجريمه وتجريم نتائجه التي أدت إلى مجازر مستمرّة لحظة كتابة هذه السطور.
كلّ ما حدث (ويحدث) يُظهر ألّا نيّة لسلطة الأمر الواقع في بناء دولة وطنية، بل ثمّة إصرار على اعتبار سورية غنيمةَ حرب، والسوريين من غير السنّة أهل ذمّة يمكن عقابهم في أيّ لحظة عبر الغوغائية التي تدّعي السلطة عدم قدرتها على ضبطها. قدمت السلطة خلال الخمسة أشهر الماضية وصفةً ممتازةً للقضاء على المجتمع وعلى حلم الدولة المدنية، وصفة سوف يدفع فاتورتها السوريون جميعاً، بمن فيهم المنتشون بالانتصار الوهمي الذي يعتقدون أنهم فيه الآن.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.