وداعا محمد جبريل... الرجل الطيّب
رحل قبل أيام الصحافي والكاتب محمد جبريل، عن 87 سنة. لم ينشغل بشيء آخر سوى بالكتابة والتأليف والصحافة، ومدّ يد العون لجيل الكتّاب في أقاليم مصر عامة، والقاهرة، ما يقارب 40 سنة، في ندوته الشهيرة بصحيفة المساء المصرية، مرحّباً بأجيال من الثمانينيّات والتسعينيّات وما بعدهما. عمدةً يفتح دوّار بيته في صالة تحرير الصحيفة للقادمين والكادحين من فصائل الكتّاب كافّة، من دون أدنى تمييز أيديولوجي، كما يحدث عادة في الندوات الحزبية، من تحقّق منهم، ومن هو يلمس بدايات الأعتاب ويدق بخجله على أبواب القاهرة بحثاً عن مكان لقدم، وكان الرجل نعم الأخ والأب.
كما رأيت ذلك بنفسي خلال سنوات، منهم من كان من أعمدة الندوة في شبابه، كشاعر العامّية الموهوب مسعود شومان، الذي أصبح دكتور مسعود شومان، بعدما صار من كبار دارسي الموروث الشعبي، الذي اهتم به، سواء في حلايب وشلاتين أو شمال أفريقيا. ومنهم القاصّ سيّد الوكيل، الذي احترف النقد في ما بعد عن معرفة ونباهة، والقائمة يطول حصرها لهؤلاء النبهاء، الذين خرّجتهم ندوة الراحل محمد جبريل، كالطبيب والقاصّ حاتم رضوان، والقاصّ الموهوب عبد المنعم الباز، ولا أعرف لماذا اختفى هذا الموهوب مرّةً واحدةً. والكاتب والروائي سعيد نوح، والمخرج السينمائي والقاصّ محمود سليمان، صاحب الأفلام القصيرة، التي نالت الجوائز في المهرجانات الدولية كافّة، والشاعر محمود الحلوني، والشاعر يسري حسّان، والقائمة طويلة. وهذا وحده يكفي الرجل، حتى لو لم يكتب أكثر من 70 كتاباً ما بين القصّة والرواية، علاوةً على كتبه النظرية الأخرى، وللقارئ أن يتعجّب من أنه بعد رحيله بساعتين، كان له ذلك الكتاب الجديد في معرض القاهرة للكتاب أخيراً، تحت عنوان "بيت الرمل"، وهو يقترب من التسعين إلّا قليلاً.
بالطبع، لم أُشرَّف بفترة المرحوم عبد الفتاح الجمل، عمدة الفضل على جيلَي الستينيّات والسبعينيّات في الملحق الثقافي لصحيفة المساء نفسها، ولكن الرجل تكفيه كلمات جيلَين صارا في ما بعد هما أعمدة المؤسّسة الثقافية بالكامل، وخاصّة جيل الستينيّات، وإن كنت قد شُرِّفت بجلسة معه في نقابة الصحافيين مع الراحل الكاتب بهاء طاهر في حديقة النقابة، وكان الرجل قد غسل يديه من المناخ الثقافي كلّه في آخر حياته، وفضّل (كما أشار على زوج أخته) أن تكون شقّته، في بيت أخته، بلا سقف، وتكون عبارة عن مكتبته ومشتل صغير للنباتات كافّة، فوافق زوج الأخت على طلبه مسروراً.
كان محمد جبريل عكس ذلك تماماً، بيتوتياً تماماً، كي يفتّش في الموسوعات وأمّهات الكتب، ويكتب كلّ يوم بلا كلل أو ملل أو زهد، حتى أواخر أيامه كانت تصدر كتبه تباعاً بعد الثمانين من عمره، وكأنّه يسابق الزمن، حتى تعدّت مؤلفاته السبعين أو أكثر، مثل "من أوراق أبي الطيّب المتنبي"، و"هل"، و"حارة اليهود"، و"اعترافات سيّد القرية"، و"زهرة الصباح"، و"رباعية بحري"، و"الشاطئ الآخر"، و"ياقوت العرش"، و"صيد العصاري"، و"غواية الإسكندر"، و"مدّ الموج"، و"حيرة الشاذلي في مسالك الأحبة"، و"زيارة أخيرة إلى نجيب محفوظ"... إلى آخره. أيّ أن الكتابة لديه لم تكن مزاجاً، أو نزوةً، بل حِرفةً يوميةً ومثابرةً وجهداً وعرقاً يومياً، ولعلّه الوحيد من جيل الستينيّات المصري، الذي طبّق النصيحة المحفوظية بحذافيرها، أي البيت والعمل والمثابرة والعرق، وترك الزمن كي يكون الحكم والفيصل، بلا زعيق أو عداوات أو مناكفات ليلية لا طائل من ورائها ما بين صحبة الكتابة والأدب، بغرض البحث عن النجومية، أو مسك لجام العالمية، والجري وراء المترجمين والمستشرقين.
خرج الرجل سالما وقد أدّى ما عليه، حتى لو كان نصيبه من النجومية الزاعقة أقلَّ بقليل ممّا أنتجه أو حتى أقل ممّا قدّمه لأجيال ثلاثة بحنان الأخ الكبير والسند، وظلّ محبوباً من الجميع حتى آخر يوم له في الدنيا، ونستطيع إجمالا أن نقول إن الإسكندرية كانت معشوقته الأولى والأخيرة، والبحر كان زاده مع أولياء الله الغرباء عن مدينة الإسكندرية من بلاد الله. كانت الإسكندرية هي سحره رغم سَكَنه في القاهرة ما يقرب من نصف قرن، كي يرعى دوره ووجوده من داخل منزله، وكما كان الراحل محمّد مستجاب يقول: "لقد جئت القاهرة كي أرعى فيها أغنامي"، فعلى الجميع الرحمة.