وجبة الخشب المبارك

21 مارس 2025

(عبد الرحمن السلمان)

+ الخط -

الدّق على الخشب عادة قديمة لدرء العين، ولدوام النِّعم، فيكفي الدّق على الخشب لإغلاق أبواب الشرّ المتربّص. لو أن هذا صحيحٌ لدقّ الناس جميعاً على الخشب، وعاشوا في ثباتٍ ونبات، لكن الحياة أعقد. مع هذه الهشاشة تجاه الشرور مهما كان نوعها، خلصت دراسة قاست دور المضغ في زيادة ذكاء الإنسان إلى أن مضغ الخشب يُحفّز قدراته الذهنية. وذلك على عكس مضغ العلكة الذي لا يفيد إلا في ضخّ الغازات في البطن، ليس بسبب المضغ فقط، بل لأنها مصنوعة من مادة بترولية.

ولهذا الغرض، صنعت ماكينة الاستهلاك أدوات خشبية طبّية خاصّة، حتى لا يفكّر أحدُنا في مضغ كرسي أو طاولة، مثل أرنب محبوس. فالقدرات الذهنية الناتجة عن فكرة مضغ الخشب هذه، تشارك في منح الإنسان طاقة أكبر على مواجهة خُبث الحياة وذكاء الشرّ، لأن الخير بسيط، ولا يصعب فهمه أو رؤيته، بينما الشرّ خارق الذكاء، يعجز المرء عن رؤيته مقبلاً، أو تحسّس مصدره أو تحديد طبيعة شخص يضمر الشرّ.

ما نفهمه من الدراسة بشكل غير مباشر، مع أنّنا فقدنا الإيمان بالدّراسات لكنّ كثيراً منّا يؤمن بدقّ الخشب، أنّ الخشب إذا لم يمنع الشّر فعلى الأقلّ يمنح ماضغيه أسناناً ذكية، وحادّة لمضغ المواقف الصّعبة بفمٍ مُدرَّب. وإذا ذهبنا مذهب الدراسة، نجد آراء عدد من الغربيين، غير المنحازة، التي تؤكّد أن المرأة في العالم الثالث، أو في المجتمعات غير الغربية، وبسبب ضيق هامش الحرّيات، وصعوبة المواقف التي تعيشها المرأة، صارت أكثر ذكاء وفطنة. لكن لو سألها أحدهم ما إذا كانت تفضّل فطنة المرار والمشاق، أو رتابة الحياة السلسة وكسلها، فهل كانت لتختار وضعها الحالي؟

أما مناعة الأطفال الذين لم يمضغوا الخشب، لكنّ الحياة مضغتهم كحبات اللبان، فهي أسوأ درجات نوعية الحياة. في الحرب على غزّة وفي حروب أخرى، يعجب الناس بنسب شجاعة وذكاء الأطفال مقارنةً بأعمارهم، لكن هل هذا أمر جيّد؛ أن يكبروا وينضجوا سنوات كثيرة قبل الميعاد.

الطفلة التي حملت أختها مسافة كيلومترات إلى المستشفى، والطفل الذي حمل شتات جثّة أخيه في كيس، والأطفال الذين فقدوا أهاليهم كافّة، أو كبروا على صوت القصف... هؤلاء حتماً أكثر فطنةً ومراساً من بقية أطفال العالم، لكن هل هذا أمر إيجابي بحيث نقول إنّه يقوّي شكيمتهم، أو سلبي بحيث نشير إلى حرمانهم من البراءة الساذجة، وهو حقّهم الأول قبل أن يكبروا وتتكشّف خريطة الحياة أمامهم؟

كم هي عديمة الإحساس جملة "ما لا يقتلك يقوّيك"... ماذا عن أن هذا الذي لم يأخذ عمرك في لحظة يقتل بطريقة غير مباشرة، مع تراكم الصدمات التي تُسبِّب الأمراض المميتة مثل السرطان؟ عدا عن السكّري الذي يُقدَّم في طبق ساخن، وتسارع تدمير الكلى والكبد والجهاز الهضمي والقدرات العقلية والاكتئاب الشديد، الذي قد يؤدّي إلى ذلك كلّه، مع تراجع خطير في القدرات النفسية والذهنية والجسدية. ويمكن ملاحظة الأشخاص الذين عاشوا طفولةً صعبةً وظروفاً أسريةً ومادّيةً مؤذيةً، كيف كبروا بندوبٍ نفسيةٍ تجعلهم أقلّ مرونةً مع المحيط، على عكس الذين لم يعانوا ظروفاً سيئة.

يبدو مضغ الخشب من باب الصبر بديلاً جيّداً من "العضّ على النواجذ" من باب الندم. والنواجذ هي الأضراس، التي يضغط عليها معظمنا بفعل التوتّر والضغط النفسي، لكن معظم الناس حين يسمعون العبارة يفهمون النواجذ أنّها الأسنان الأمامية، ويخطر لهم السنّان الأماميّتان لسنجاب أو فأر.

المناعة النفسية ليست خرافةً، لكنّ العوامل المؤدّية إلى تكوّنها ليست البيئة المسيئة والتجارب الصّعبة، بل بالعكس الحياة السّليمة من الصدمات والحروب. وما أكثرها وأقلّ أسباب الفرح. لعلّ الدراسة قلّدت ماري أنطوانيت لما نصحت شعبها الجائع المحروم من الخبز أن يأكل البسكويت. وليس من نصيحة أفضل لضحايا البؤس البشري بأنواعه كلها من تجربة مضغ الخشب. لكن يمكن تصور أشياء كثيرة قابلة للمضغ، ولغيره.

عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
رئيسة قسم الثقافة في "العربي الجديد"، صحافية وشاعرة مغربية.
عائشة بلحاج