وثيقة "الانقلاب" وجديد الأزمة في تونس

وثيقة "الانقلاب" وجديد الأزمة في تونس

29 مايو 2021
+ الخط -

يؤخذ على الثورة التونسية، أنها بلا قيادة ولا طبقات، إذ لا يوجد في تونس فاعلون حقيقيون أو مفكرون أو قادة سياسيون ينظّرون لها ولمسارها، على عكس الثورات الفرنسية والأميركية والروسية والصينية وغيرها، والتي سبقتها حركات فكرية أسّست لها ونظّرت لتحولاتها وأهدافها. وقد أصبح واضحا أن الأزمة التي تعيشها تونس، في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد يكون أحد أسبابها الرئيسية هذا اليتم الفكري والثقافي الذي تعانيه ثورة الياسمين، فالنظام السابق أورث فقرا معرفيا فكريا وانحسارا في النخب الفاعلة التي سقطت بعيد الثورة في صراعات أيديولوجية ما زالت تشغلهم، على غرار هل الإسلام دين ودولة، وهل المرأة مكملة للرجل أم متساوية معه في الحقوق والواجبات، وإشكالية تداخل مؤسسات الدولة من برلمان ورئاسة وحكومة، وما سقط فيه الوضع في تأويل الدستور الذي ظل يمارسه رئيس الجمهورية، ويهدد بفصوله شركاءه في الحكم.

ثار التونسيون من أجل تغيير وضعهم المتردّي والبائس اقتصاديا واجتماعيا. ولم يعد خافيا اليوم أنهم يعيشون إحباطا عاما بمختلف شرائحهم وفئاتهم، ويعلنون، بما مكّنتهم الثورة من حرية في التعبير (المكسب الوحيد لها)، في الفضاءات العامة والمنابر الإعلامية، وخصوصا في وسائل التواصل، عن خيباتهم المتتالية. وارتفعت حدّة الإحباط مع تداعيات جائحة كورونا، وتدهور المقدرة الشرائية وأزمة التلاقيح ضد كورونا، وتردّي المؤسّسة التربوية، وتدحرج المؤشّرات الاقتصادية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة مقابل غياب المخرج السياسي الذي من شأنه أن ينهي الانسداد، ويضع خريطة الطريق من كل الأطراف، للخروج من النفق المظلم، إذ فشلت دعوات الحوار، ومجمل المبادرات التي تقدّمت بها أكثر من جهة، أهمها الاتحاد العام التونسي للشغل. حوار متعدّد الأبعاد كان الأمل منه أن يُفضي إلى مخرجات اقتصادية واجتماعية، وحتى سياسية، تؤسّس لأمن اقتصادي واجتماعي، وتعيد للدولة ومؤسّساتها هيبتها ومكانتها، وتضمن للشعب "الثائر" "خبزه وحريته وكرامته"، بعد أن عجزت الحكومات المتعاقبة، منتخبة أو معينة، سياسية أو غير سياسية، عن تحقيق ذلك.

الأزمة التي تعيشها تونس، في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد يكون أحد أسبابها الرئيسية اليتم الفكري والثقافي الذي تعانيه ثورة الياسمين

جديد الأزمة في تونس اللقاء الرسمي للرئيس قيس سعيّد برئيس الحكومة هشام المشيشي ووزير الدفاع إبراهيم البرطاجي، الأربعاء 26 مايو/ أيار الحالي، في قصر قرطاج، بعد أشهر من قطيعةٍ بسبب التحوير (التعديل) الوزاري الذي أجراه المشيشي في يناير/ كانون الثاني الماضي، وعارضه سعيد. كان موضوع اللقاء التداول في ملف الانقلاب المزعوم، في علاقة بوثيقة مسرّبة نشرها موقع middle east eye البريطاني، وقيل إنها مسرّبة من ديوان رئيس الجمهورية، ووصفها بالمخطط للانقلاب على رئيسي الحكومة والبرلمان. وتكشف عن سيناريو مزعوم لانقلاب دستوري تتهيأ رئاسة الجمهورية للقيام به على مكوّنات المنظومة السياسية، وخصوصا البرلمان ورئاسة الحكومة. وثيقة هزّت الرأي العام السياسي، وأعقبتها ردود فعل داخلية وخارجية. وقد اعتبرها بعضهم، على الرغم من عدم التأكد من مدى صدقيتها، "بروفة" لتحرّك محتمل من رئيس الدولة ومؤسسة الرئاسة، وخصوصا مديرة الديوان، نادية عكاشة، لتنفيذ "انقلاب دستوري" عبر تفعيل الفصل 80 من الدستور الذي يعتبر سلطةً جبّارة بيد رئيس الجمهورية، بوصف أستاذة القانون الدستوري سلسبيل القليبي، إذ يمكّنه من مسك كامل السلطات، حيث يخوّل له التدخل في مجال المشرّع، وفي اختصاصات رئيس الحكومة، واتخاذ جميع التدابير مهما كانت طبيعتها، وبذلك يتم نزع السلطة من يديهما وتجميعها بيد رئيس الدولة. ويبدو هذا الانتزاع عاديا ومكفولا بالدستور، ما اعتبر تهديدا حقيقا لإمكانية عودة الاستبداد من بوابة الدستور نفسه.

جديد اللقاء في دعوة سعيّد إلى التنسيق بين مؤسسات الدولة، واعترافه بأنه لا يمكن أن تدار في ظل انفصال بينها، فتونس دولة واحدة ومؤسّساتها تعمل بالتشاور والتنسيق، على الرغم من اختلاف وجهات النظر. ومن الواجب العمل في تنسيق وتكامل بين الرؤساء الثلاثة. ودعا رئيسَ الحكومة الى التنسيق مع رئاسة الجمهورية في مجال السياسة الخارجية، وخصوصا نتائج زيارة المشيشي ليبيا. لم يكتف سعيّد بهذا، بل هاجم البرلمان أيضا.

هل ستشهد تونس تحولا إيجابيا في المشهد السياسي، خصوصا في مستوى الرئاسات الثلاث؟

وقد فتح هذا اللقاء مجالا للتفاؤل قد يفضي إلى حلحلة الانسداد باتجاه حوار بين الرئاسات والأطراف الاجتماعية، فقد أكّدت معطيات جادّة أن سعيّد اقتنع، أخيرا، بضرورة تنظيم حوار اجتماعي يكفل الخروج من الأزمة والانصراف إلى معالجة قضايا التونسيين الاقتصادية والاجتماعية المعيشية. وقد جاء اللقاء بعد سلسلة من التفاعلات والتصريحات، وحتى اتصالات رسمية واردة من واشنطن، خصوصا حديث وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، في رسالة مفتوحة إلى الرئيس بايدن، عن الاستقرار التونسي الليبي الذي يمرّ بالضرورة عبر بوابة الديمقراطية، فضلا عما عبّرت عنه نائبة الرئيس، كامالا هاريس، في مكالمةٍ مع سعيّد، أخيرا، عن ضرورة إنجاح النموذج الديمقراطي التونسي.

هل ستشهد تونس تحولا إيجابيا في المشهد السياسي، خصوصا في مستوى الرئاسات الثلاث، بما يحقق استقرارا حكوميا يمنح ثقة للشركاء والمانحين والمستثمرين، بما يعيد الأمل للتونسيين في تحقيق شعارات ثورتهم عبر مؤسسات دولة قوية وفاعلة؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي