... وانتصرت إرادة شعوب الجنوب في السودان

... وانتصرت إرادة شعوب الجنوب في السودان

30 يونيو 2021
+ الخط -

تسبّب تجديد المقترح الذي دفعت به الحركة الشعبية – قطاع الشمال قبل قرابة عقدٍ، بمنح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان السودانيتين حكماً ذاتياً، بإحداث جدل واسع داخل الأوساط السودانية، كما شكّل مساراً حدث في أثنائه شرخ وانقسام بين مؤيد ومعارض، وأدخل السودان في دوامة عنفٍ جديدة. مستندين في سبب رفضهم إلى رواية واحدة فقط، حيث تجربتهم مع جنوب السودان التي تحولت إلى دولة، بعد ما منحت حكماً ذاتياً وفقاً لاتفاقية نيفاشا (في كينيا) في 2005، متناسين أن تلك الاتفاقية منحت الجنوب حق تقرير المصير. وأغفلت الأوساط السودانية الرواية الأخرى التي تدحض تلك المزاعم والمخاوف، أن أبناء النيل وجنوب كردفان لم يطالبوا بحق تقرير المصير ولا الانفصال، وإنما العيش في كنف المركزية ليس سوى استمرار للعنف والقتل.

عاش السودان ثلاث حروبٍ أهلية تعود، في خلفياتها وجذورها، إلى حالة الإحباط واليأس التي عاشه الشعب السوداني من أنظمته الحاكمة. وبدأت المرحلة الأولى بين أعوام 1955 - 1972 بين الشمال والجنوب، انتهت بتوقيع اتفاقٍ على أساس إنهاء التوترات والاقتتال الداخلي، والدخول في حواراتٍ لم تثمر عن أي تقدّم أو تفاهم. ما أجّج ومهد لبدء المرحلة الثانية من الحرب الداخلية عام 1983، وكانت أطول الحروب وأعنفها في ذلك القرن، وراح ضحيتها قرابة مليونين من المدنيين، ونزوح ما يقارب أربعة ملايين منذ بدء الحرب، والتي اعتبرت أكثر كلفة بشرية بعد الحرب العالمية الثانية، وأنهت اتفاقية نيفاشا ذلك الصراع في يناير/ كانون الثاني 2005، وتم الاتفاق على تقاسم النفوذ والسلطة والثروة بين الشمال والجنوب. في حين أن النزاع المسلح، والذي أطلق عليه الحرب الأهلية السودانية الثالثة، تجلى بين المركز والولايات الجنوبية تحديداً، كردفان والنيل الأزرق، والذي تجدّد منذ 2011، رداً على التفقير والتجهيل والتهميش السياسي والتنموي وغياب الديمقراطية وغياب التعدّدية السياسية والشفافية والفقر والبطالة، علماً أن الصراع بين هاتين المنطقتين والمركز كان جزءاً من حركات التمرّد المسلح منذ 1985، وتوقف مع الإعلان عن اتفاقية 2005، لكن معضلة تلك الاتفاقية أنها لم تلامس جذور المشكلة في كِلتا المنطقتين، ولم يكترث المركز بأيٍّ من البروتوكولات الخاصة بالترتيبات الأمنية والعسكرية والسياسية. وتعمّق الخلافات بشأن الانتخابات، وتنصّل الحكومة السودانية من الاتفاق، أديا إلى تجدّد الحرب في المنطقتين مطلع يونيو/ حزيران 2011.

ثمّة خلفية أخرى لجذر الخلافات بين السودانيين، تعود إلى حقبة الانتداب البريطاني على السودان، حيث أدارت بريطانيا، بالتوافق مع مصر، شمال السودان وجنوبه مناطق منفصلة عن بعضها بعضا. وفي نهاية الأربعينات من القرن الماضي، تم دمج المنطقتين في وحدة إدارية، ولم يستشر فيه الجنوبيون إطلاقا، بل تنامى شعور الغبن والظلم والخوف من الشماليين، خصوصا قضية انتقال جزء كبير من السلطة إلى المركز في الشمال. وحتى بعد نيل السودان استقلاله عام 1953، ازدادت التوترات الداخلية في طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، وتجسّدت مخاوف أبناء جنوب السودان عملياً وفعلياً، بعد إعلان استقلال السودان في 1956 وتراجع أبناء الشمال عن تشكيل حكومة اتحادية، ومنع الحديث عن أي شكلٍ من الإدارة أو الحكم الذاتي. وإن كان لهذا التفصيل دورٌ غير ثانوي في تضخّم مجريات الأحداث، لكنه يكشف أيضا حجم الغبن والظلم الذي مارسه المركز ضد الأقليات الدينية في جنوب البلاد، وعدم تمكّنهم من تأسيس دولة حديثة، دولة المواطنة الحقوقية، ونسفت التعدّدية والمساواة. وكان السلاح لغة الحوار الوحيدة منذ ذلك الحين إلى يوم توقيع اتفاقية نيفاشا. ما يعني أن الحكومات التي تعاقبت على سدة الحكم لم تنخرط في حوار وطني جدّي يلم شمل السودان الممزّق والمرهق من تبعات الحرب الأهلية. بل إن ما نحا إليه أبناء الجنوب في الاستفتاء الذي جرى بين 9 - 15يناير/ كانون الثاني 2011، هو ما إذا كان السكان المحليون يرغبون بالبقاء مع السودان أو الانفصال، ثم أعلن الرئيس السوداني ونائبه (في حينه)، عمر البشير وسلفا كير رسميا انفصال جنوب السودان وإعلانه دولة مستقلة في 9 يوليو/ تموز 2011.

الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان لم تنخرط في حوار وطني جدّي يلم شمل السودان الممزّق

لم تتعلّم حكومة المركز من نتيجة الاستفتاء تلك الالتفات إلى رياح التغيير التي عصفت بالسودان، وأن الولايات المتاخمة لها ستنحو المنحى ذاته، خصوصا وإنها على خلاف مع المركز سياسياً وإثنياً ودينياً. وتسبّبت السياسات المتبعة من عمر البشير في تجديد اندلاع الاشتباكات والنزاع المسلح بين قواته وأبناء كردفان والنيل الأزرق. وعلى الرغم من الحوارات والمفاوضات بينهم، إلا أن التعنّت والصلابة اللذين مارسهما عمر البشير ووفوده المفاوضة شكلا سدّاً أمام إحداث أي اختراقٍ في طبيعة تلك الحوارات. وهو ما يدعو إلى طرح المقاربة التالية: المركز في الشمال السوداني تسبب بعدم التئام جروح أبناء الجنوب، وتعمّد الإقصاء والإلغاء بحقهم. وفي النهاية، كانت الغلبة لإرادة الشعب في الجنوب. وأيضاً، بعد عقودٍ من الصراع والحوارات غير المثمرة، لم تتمكّن الخرطوم من استيعاب تطلعات أبناء كردفان والنيل الأزرق، ما أفضى إلى الدخول في حوارات أخرى أكثر عمقًا وجدّية، انتهت بإعلان اتفاق السلام في جوبا بين السودان وممثلي تلك المناطق، وإعلان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، عبد الفتاح البرهان، في 21 يونيو/ حزيران الحالي، مرسوماً دستورياً يمنح الحكم الذاتي لولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، ومنح سلطات الولايتين نسبة من مداخيل ثروات المنطقتين وتقاسم التمثيل في الحكومة والمجالس، فكان الشعب هو المنتصر. علماً أن مواد في اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) والدستور السوداني نصت على حق الولايات الجنوبية في إدارة مناطقها، حيث أوردت الاتفاقية، في الجزء الأول "المبادئ العامة"، في إحدى فقراتها "الإقرار بسيادة الأُمَّة المجسدة لشعبها وبالحاجة إلى الحكم الذاتي لحكومة جنوب السودان والولايات في جميع أنحاء السودان". وأورد الدستور فقرة كاملة عن "ضرورة الاعتراف بذاتية حكومة جنوب السودان والولايات، ومراعاة ذلك عند توزيع السلطات بين كافة مستويات الحكم"، ما يعني أن طرح الحكم الذاتي كان موجوداً منذ عقود، وليس جديداً متماشياً مع حركات الربيع العربي.

يُمكن اعتبار ما ذهب إليه مجلس السيادة الانتقالي في السودان خطوة ذكية تصبّ في اتجاه الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية من التمزيق، خصوصا وأن جنوب السودان كان قد طرح الحكم الذاتي في 1956 الذي أجهض حتى بعد الاتفاق عليه في اتفاقية أديس أبابا التي حصل عليها الجنوبيون عام 1972، والتي أقرّت الحكم الذاتي للجنوب، لكن التباطؤ في الاستجابة ومحاولة التمييع والتأجيل والتسويف قادا إلى تطوّر المطلب إلى حق تقرير المصير والانفصال عن السودان.

يُمكن اعتبار ما ذهب إليه مجلس السيادة الانتقالي في السودان خطوة ذكية تصبّ في اتجاه الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية

شكلت تطلعات أبناء تلك الولايات نتاجاً وامتدادا للإرث التاريخي لأزمة الحكم في السودان، الأزمة التي لم يلتفت إليها المركز منذ مائة عامٍ. وتالياً، التمرّد في جنوب السودان وكردفان والنيل الأزرق وما قد يؤثر على باقي الولايات، إنما هو نتاج طبيعي لفشل نظام الحكم السوداني من حمل لواء الوطنية، ولم تتحامل على نفسها لإيجاد صيغةٍ مثاليةٍ لإدارة التنوع في السودان، بل إنها سعت بقوتها إلى إيجاد هوَّة عميقة، وخلل مريب في التوازن الثقافي، الاقتصادي، السياسي، الاجتماعي والتمثيل النيابي، والمناصب المهمة بين مختلف الأقاليم، وهو ما مهّد لشعور المظلومية وحفّزه لدى أبناء المنطقتين بالاضطهاد، عبرت عنه حركاتٌ مطلبية، انتهت بالانفصال بخصوص جنوب السودان، والحكم الذاتي للمنطقتين الأخريين.

كان بالإمكان الحفاظ على السودان دولة مركزية واحدة، فقط لو تنازلت الأنظمة السياسية التي حكمت الخرطوم عن عنجهيتها وفسادها ومحاولة تشييء المواطن السوداني، وتقديم ما يُشبع شغف الأطراف وتطلعاتها، وإحياء شعور الأمان مع المركز. وبعد ماراثون الحوارات والخلافات وشلال الدماء التي سالت، وهجرة الملايين، عاد أبناء السودان إلى المربع الأول الذي طُرح منذ اتفاقية أديس ابابا عام 1972. ولو تخيّلنا شكل السودان اليوم، وحجم ثرائه المادي وقوته العسكرية، لو لم تتسبب الشمولية والاستبداد والدكتاتورية في إفشال ذلك الاتفاق الذي تسبب بتحميل السودان أكلافاً بشرية واقتصادية مخيفة ومريبة. وهي الحالة عينها التي تعيشها الشعوب في أغلب الجمهوريات العربية التي تصرّ على تفضيل القتل على الهوية على منح المواطنين ما يُشعرهم بإنسانيتهم وانتمائهم إلى أوطانهم.