واقع السوريين الأكراد السياسي من الثورة إلى إسقاط النظام

عناصر لقوات سوريا الديمقراطية في مناورة مع التحالف في دير الزور (25/3/2022 فرانس برس برس)
تتطلّب سلسلة التحوّلات الجذرية، التي أحاطت بالقضية الكردية في سورية، منذ نهايات السلطنة العثمانية، حتى لحظة انعتاق البشرية من أحد أسوأ أنظمة الحكم، حلولاً، وليس مُجرَّد سرديات عن انضمامهم جزءاً إلى الكلّ الذي يعود إلى دائرة مفاهيم المركزية، والهويّة السورية، جزءاً من الأمّة، والحضارة العربية.
وإذا حُصِرت مفاهيم الوطنية والانتماء بمعارضة النظام، فإن الكرد مارسوا كُلّ ما استطاعوا إليه سبيلاً في طريق الخلاص، أو على الأقل الثبات على الهُويَّة والوجود واللغة والتاريخ الكردي، جزءاً أساساً من القضية الوطنية السورية، وحملوا لواء المعارضة منذ بواكير نشأة الدولة السورية، والاستقلال الأول عن الفرنسيين، ويكفي الاستدلال بأسباب (ونتائج) تشكيل الجمعيات والأحزاب الكردية، في منتصف خمسينيّات القرن الماضي، دليلاً على معارضة حكم البعثيين البلاد، وما تلاها من أحكام قاسية ضدّ الكرد، التي وصلت إلى الاعتقال عشرات السنين، ردّاً من النظام على رفض الكرد التبعية والانخراط ضمن مشاريع الصهر والإلغاء، إضافة إلى تحطيم تمثال حافظ الأسد وكسره في عامودا والقامشلي، حين كان النظام في أوج قوته وبطشه وجبروته، إبّان الانتفاضة الكردية في 2004.
الموقف من الثورة
توزَّع الكرد بين طرفَين وموقفَين إبّان الثورة السورية. في بدايات الحراك الشعبي في عام 2011، اختار الشارع الكردي والمجلس الوطني الكردي الوقوف في جانب السوريين في محنتهم، والانخراط ضمن الإطار الوطني السوري، بدلاً من الاصطفاف بجانب النظام، أو معاداة الثورة، أو مواجهة الثوّار، في مقابل اختيار الاتحاد الديمقراطي، ثمّ الإدارة الذاتية، مفاهيم الخطّ الثالث، وما استتبعه من سلسلة مشاريع وأفكار، لم تنجح في تطبيقها أو تقبّل السوريين لها.
تلا ذلك انقسام الكرد في سورية بين محورَين: الأول، المجلس الوطني الكردي، المنضمّ إلى ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وأصبح جزءاً من هيئة التفاوض مكوّناً مستقلاً، وممثّلاً في اللجنة الدستورية، وتمكّن من الحصول على وجود (وإن غير قوي بالشكل المطلوب والكافي) للتمثيل السياسي الدولي، عبر لقاءات مع وفود دولية، وعضويته في المعارضة السورية، وعلى علاقة جيّدة مع تركيا، صاحبة اليد العميقة في الملفّ السوري، وخاصّة في الشمال الغربي، ومع التفضيل الأميركي أنقرة على حساب القوى الأخرى كافّة. كما تلقّى المجلس الكردي الدعم والمساعدة والمساندة المعنوية والسياسية واللوجستية من قيادة إقليم كردستان العراق. في المقابل، طرح الاتحاد الديمقراطي سلسلة مشاريعَ وأفكارٍ وقضايا، من قبيل "أخوة الشعوب"، و"الأمة الديمقراطية"، و"الإدارة الذاتية"، التي تعرّضت للتغيير في هيكليّتها وتسمياتها مراراً، وصولاً إلى طرح عقد اجتماعي من طرف واحد، وما سبقه من اجتماعات وملتقيات خاصّة بهم، في كلّ مرّة يُطرح أي مشروع أو قضية حول سورية.
مشاريع الاتحاد الديمقراطي وأفكاره ثبت عدم نجاحها أو عدم ملاءمتها طبيعة المجتمع السوري عامّة، والكردي خاصّة
وفي المجمل، أثبتت جميعُها عدم نجاحها أو عدم ملاءمتها لطبيعة المجتمع السوري عامّة، والكردي خاصّة. وامتلك هذا الجناح قوّة عسكرية تحوّلت جزءاً من التحالف الدولي، بقيادة أميركا، لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ورغم ما قدّمته من ضحايا، ودحرها القوى التكفيرية المتمثلة بـ"داعش"، ومع سيولة مساعي الإدارة الذاتية أو مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) لتقديم أوراق اعتمادها طرفاً سياسياً وإدارياً، سواء لتركيا، أو لحوار مع النظام السوري، أو لمسارات الحلّ السياسي في جنيف وأستانة وسوتشي، لكنّ الفيتو التركي من جهة، ورفض المعارضة السورية من جهة ثانية، وممارساتها في أرض الواقع من جهة ثالثة، حالت دون تحقيق أي تقدّم، أو كسرٍ لطوق العزلة حولهم.
واقع الإحاطة المقتضبة والمكثّفة أعلاه، كمنت خلف تباينٍ في مواقف السوريين تجاه طرفي الصراع الكردي، الذي هو في صُلبه صراعٌ هُويَّاتي، ما بين الانتماء إلى الأمّة الكردية، والانتماء للثورة، والموقف المُسالم من تركيا، والانخراط في مشاريع المجتمع الدولي، وما بين "فكرة" الخطّ الثالث، ومحاولة فتح قنوات التواصل مع أكثر من طرف متناقض، وعدم معاداة النظام وإيران. وفي المحصّلة، الذاكرة السورية مُتخمة بمواقف الأطراف من الثورة، وهي في أوج الحاجة إليهم. مع ذلك، فإن أفضل الحلول هو التوافق والابتعاد عن شبح الحرب.
اختلاف الرؤى والمصالح
وعبر سياق الأحداث وتطوّرها، يُطرَح بشكل مستمرّ مستقبل العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والمجلس الكردي، الذي يعتمد على جملة من العوامل السياسية والعسكرية المتداخلة مع تحوّلات الوضع السوري داخلياً وإقليمياً، وراهن حال الطرفَين، خاصّة في ظلّ تعارض تكوين كل منهما وخلفيتهما السياسية.
تتألف "قسد" من تحالف عسكري يضمّ وحدات حماية الشعب التي أسّسها الاتحاد الديمقراطي، بالإضافة إلى فصائل عربية وسريانية، وتشكّلت عام 2015 بدعم أميركي، وخاضت معارك ضدّ تنظيم داعش في عموم شمال شرقي سورية. في المقابل، لم تحظ بأي حماية من الفواعل الرئيسيين في الملفّ السوري (أميركا وروسيا) خلال المعارك التي خسرتها مع فصائل المعارضة السورية، المدعومة من تركيا في عام 2018 في عفرين، و2019 في رأس العين وتلّ أبيض، وتدعو مظلّتها السياسية، مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، إلى مفاهيم تتعلّق بالأمّة الديمقراطية، والعيش المشترك، بعيداً عن القضايا القومية، التي تصفها بفاقدة الصلاحية.
سيكون لتركيا شأن كبير في سورية، ولا نية للمجتمع الدولي في معارضة أي عملية عسكرية تقوم بها
أمّا المجلس الوطني الكردي، فهو تجمّع سياسي يضمّ عدة أحزاب كردية سورية، وتأسّس في 2011. يقول في بياناته ومواقفه إنه يسعى إلى تمثيل المصالح القومية للكرد السوريين في المحافل السياسية الدولية، ويعمل على تعزيزها في سورية، ولكن ضمن إطار وحدة الأراضي السورية، وفق نظام لا مركزي يمنح الأطراف صلاحياتٍ تتعلّق بالأمن والاقتصاد والتمثيل السياسي. يرتبط المجلس بعلاقات قوية مع المعارضة السورية، التي تعتبره ممثّلاً شرعياً للكرد في سورية، ما يضعه في موقف معارض لـ"قسد".
محاولات رأب الصدع
خلال عمر الثورة السورية، سعى رئيس إقليم كردستان (آنذاك)، مسعود البارزاني، إلى تقريب وجهة نظر الأطراف الكردية، عبر أربع اتفاقيات، سمّيت وفق المكان الذي عُقدت فيه، أوّلاها اتفاقية هولير الأولى (11/6/2012) لضمان العمل المشترك والاتفاق على رؤية سياسية موحدّة، لكنّ الخلافات وإعلان الاتحاد الديمقراطي هياكل خاصّة بمفرده، أدّى إلى مشكلات، فتوقّف العمل بالاتفاقية. ومع اقتراب عقد مؤتمر جنيف 2، سعت قيادة إقليم كردستان العراق إلى تشكيل وفد موحّد ومستقلّ لتمثيل الكرد في المؤتمر، أو تمثيل أي طرف يحضر جنيف للطرف الغائب، وعقدت اتفاقية هولير 2 (17/12/2013). لكن الاتفاقية لم تستمرّ سوى شهر، مع توجّه الاتحاد الديمقراطي، وعبر مجلس الشعب غربي كردستان، الذي أسّسه سابقاً (12/6/2011)، للإعلان عن الإدارة الذاتية من طرف واحد فقط. حدث ذلك في 21/1/2014، أي قبل يوم من انعقاد مؤتمر جنيف 2، وغاب عنه حزب الاتحاد الديمقراطي في ظلّ عدم وجود توافق أميركي روسي بخصوص التمثيل الكردي في المؤتمر، إذ رغبت واشنطن بحضور الكرد ضمن وفد المعارضة، لأن المجلس الكردي قد انضم إلى الائتلاف، إلى جانب اعتراض تركي على وجود حزب الاتحاد الديمقراطي، بوصفه ذراعاً لحزب العمّال الكردستاني. بينما دفعت روسيا ومجلس الشعب في غرب كردستان باتجاه قبول الحزب طرفاً ضمن جنيف 2، يمثّل الكرد، بهدف إحداث ضغط على تركيا والولايات المتحدة. وفي النهاية، فشلت روسيا في مساعيها.
استمرّت القطيعة بين الجانبين، حتى نهايات عام 2014، مع سيطرة تنظيم داعش على الغالبية المطلقة من كوباني (عين العرب)، في هذه الأثناء، دعا رئيس الإقليم، مسعود البارزاني، إلى عقد اتفاق جديد بين كرد سورية، وأُعلِنت اتفاقية دهوك برعاية البارزاني والأميركيين (22/10/2014)، ووضع شرط الوصول إلى اتفاق للحصول على الدعم الأميركي في محاربة "داعش". وبالفعل، ألقت الولايات المتحدة أول شحنة من الأسلحة من الجو للمقاتلين في كوباني (20/10/2014)، بالتزامن مع بدء قوات بشمركة إقليم كردستان العراق دخول تركيا (29/10/2014)، ووصلت طلائعها كوباني (31/10/2014)، لكن سرعان ما أُنهي العمل بهذه الاتفاقية، سواء بسبب الخلافات التي ظهرت في تمثيل الأطراف ضمن المرجعية السياسية الكردية، التي أعلنتها الاتفاقية، أو لتوجه الإدارة الذاتية إلى فرض التجنيد الإلزامي (1/11/2014)، وإجراء انتخابات البلديات في الحسكة (13/3/2015)، والتي اعتبرها إقليم كردستان متعارضة مع مضمون اتفاقية دهوك المبرمة بين المجلس الوطني الكردي وحركة المجتمع الديمقراطي، واصفاً إياها بـ"الخطوة المتفرّدة"، ومشيراً إلى أنها "غير مقبولة"، لينتهي العمل بالاتفاقية ومُلحقها أيضاً.
في المعركة المقبلة لن تُستخدَم البنادق ولا الجيوش، فثمّة إرادة دولية ستمضي صوب المنشود، ومن الواضح أن رغبة دولية تقود إلى قطع العلاقة بين "قسد" و"العمّال الكردستاني"
والملاحظ في الاتفاقيات الأربع الاتفاق بالمجمل على رؤية سياسية مشتركة، والبحث في آليات ضمن المجلس للإدارة الذاتية، لتكون معبّرة عن تطلّعات جميع الأطراف السياسية والشعبية الكردية، والاتفاق على طريقة عودة بشمركة روج آفا (غرب كردستان) للدفاع عن المنطقة. لكن، ووفقاً لبيانات ومواقف قيادات المجلس الكردي، فإن الإدارة الذاتية خلال أول منعطف أو لحظة، وبعد استثمارها السياسي للحوارات والنقاشات، تتنصّل من متابعة الحوار، وتقوم بتجريده من محتواه.
وفي عام 2019 شهدت مدينة القامشلي اجتماعات مكثّفة بين الطرفَين الكرديَّين برعاية دولية، ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية ضامناً لأحزاب الإدارة الذاتية، وعلى قاعدة اتفاقية دهوك، لكنّها توقفت بعد عدة أشهر من الحوارات والتواصل.
البارزاني على الخطّ
خلال حملة ردع العدوان، بدا واضحاً أن إقليم كردستان العراق لن يقف مكتوفاً حيال ما يجري، وتحديداً دعمه السوريين الكرد، وحقوقهم في سورية. وبعد سقوط النظام، فإن كثيراً من الحركية الفاعلة التي لجأ إليها الإقليم، أوضحت حجم القوة سواء لتركيا، وللكرد في سورية، ورُبّما للإدارة السورية الجديدة أيضاً.
لجأ البارزاني إلى ثلاثة ملفّات مترابطة، دعم المجلس الكردي، عبر دعوته إلى اجتماع عاجل، عقب اجتماع الأخير مع وفد من الفرنسيين والأميركيين، بعلم البريطانيين وموافقتهم على الرسائل الدولية للكرد، وأرسل البارزاني مسؤول الملفّ السوري والكردي في ديوان رئاسة الإقليم، حميد دربندي، برفقة المبعوث الأميركي، ومبعوثاً للرئيس البارزاني للقاء مظلوم عبدي قائد "قسد"، والمجلس الكردي، وبدا واضحاً أن رسائل سياسية جدّية تقف خلف الزيارة، تلاها زيارة مظلوم عبدي للقاء البارزاني. ومجمل التحرّكات الدبلوماسية والسياسية لإقليم كردستان، تقود إلى ثلاثة ملفّات متشابكة، أولها أن تركيا سيكون لها شأن كبير في سورية، ولا نية للمجتمع الدولي في معارضة أي عملية عسكرية تقوم بها، لذا لا بدّ من خروج قوات العمّال الكردستاني من المنطقة. وثانيها الانفتاح المشترك على أحمد الشرع، وتشكيل وفد كردي مشترك. وثالثها أنه لا مجال للاستمرار في سياسية إقصاء الآخر، وأن توازنات البارزاني ستكون في خدمة كرد سورية بشرطين: التوافق الكردي الكردي، وتوافق الكرد مع باقي المكوّنات. والواضح أن قائد "قسد"، مظلوم عبدي، أدرك حجم الضغط الدولي، وتجاوز القضية والمواقف حجم "قسد"، وحجم الإدارة الذاتية، وأن مستقبلهم مرهون بمدى موافقة البارزاني على تصرّفاتهم.
خاتمة
انتهت حقبة الأسدَين (الأب والابن)، وحقبة/ مرحلة الثورة، بانتصار ورُفع العلم الأخضر، في مختلف المدن السورية، وفي القامشلي أيضاً، وأصبح الكرد أمام واقع جديد، يجب فيه البدء بالشق السياسي والدبلوماسي، ففي المعركة المقبلة لن تُستخدَم البنادق ولا الجيوش، فثمّة إرادة دولية ستمضي صوب المنشود، ومن الواضح أن رغبة دولية تقود إلى قطع العلاقة بين "قسد" و"العمّال الكردستاني"، إضافة إلى ضرورة توحيد الرؤية من مجمل القضايا المتعلّقة بالأمن والاقتصاد، ونظام الحكم، وشكل الدولة، خاصّة أن البند الأساس المشترك، والمتّفق عليه في جميع الحوارات كان الرؤية السياسية التي يطالب بها الكرد، واعتبار مناطقهم وحدة جغرافية سياسية متصلة. وفي ظلّ إصرار الإدارة السورية الجديدة، ورئيسها الشرع، على حصر السلاح بيد الدولة وحدها، وإخراج العناصر غير السورية من "قسد"، فإن أفضل الحلول هو وفد كردي مشترك، وفق المتطلّبات والضرورات التي تمليها المرحلة، والشروط الدولية والسورية. وبالعموم، فإن الحديث عن اتفاق الكرد فيما بينهم صعب للغاية، ما لم تفرضه أطراف فاعلة في الملفّ السوري (أميركا وبريطانيا وفرنسا). والخروج بضواغط وضمانات للتنفيذ. فعبر المراحل السابقة، وعقب كلّ اتفاق، كان الواضح توجّه المنظومة السياسية والعسكرية للإدارة الذاتية إلى الاستغلال المرحلي لها، في حين أن المجلس الكردي، ورغم شخصيته الاعتبارية، لم يستطع تحريك المياه الراكدة، والخروج من نسق الترهل الذي يعانيه، وهو بحاجة ماسّة لتغيير قوانين العمل التنظيمي لديه، خاصّة وفقاً للقوة التنظيمية والسياسية، ولنقاط القوة للأحزاب المنضوية فيه، وهذه الوحدة السياسية ستحمي "قسد" وإدارة المنطقة، وتضمن عودة قوات بشمركة روج آفا، والشراكة مع باقي المكوّنات، التي لا مفرّ من الشراكة معها، والحفاظ على حقوقها.