واشنطن - بكين .. الصراع على البصمة السياسية

واشنطن - بكين .. الصراع على البصمة السياسية

27 أكتوبر 2021
+ الخط -

لا يشكّل التنافس الحادّ بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية إلا عرضاً لصراع أساسي يتعلق بالبصمة السياسية على النظام الدولي، إذ تسعى الأخيرة إلى تسويق بديل للنموذج الليبرالي الغربي الذي صاغته الولايات المتحدة بُعيد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وحلولها، قوّة مسيطرة، محل الإمبراطوريات الأوروبية المترهلة، وحرصها على استمرار هذا النظام، لأنه قاعدة هيمنتها وسيطرتها على المجالين الإقليمي والدولي، فالتدافع في مجالات الصناعة والذكاء الصناعي والأسلحة المتطوّرة يخفي خلفه صراعاً على قواعد النظام الدولي وآليات اشتغاله بين نموذجين سياسيين، أول ديمقراطي تقوده الولايات المتحدة وثانٍ سلطوي تقوده الصين.
شهدت العلاقات الأميركية - الصينية مراحل حارّة، حين وحّدتهما المصالح لمواجهة الاتحاد السوفييتي أيام الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، وتفاعلات هادئة أيام الزعيم دنغ شياو بينغ، واعتماده سياسة فتح السوق الصيني على الاقتصاد العالمي، و"التقارب التوافقي" مع الولايات المتحدة، مروراً بتكريس سياسة الاعتماد المتبادل والميل نحو الليبرالية واقتصاد السوق في ظل زعامة جيان زيمين الذي زاد نسبة الليبرالية في السياسة الصينية، عبر تنظيم عملية انتقال ديمقراطية ومنظّمة على صعيد القيادة، قبل أن تعصف بالعلاقات بين الدولتين عواصف المخاوف وتآكل الثقة التي أطلقتها تظاهرات ميدان تيان آن مين عام 1989 وشعاراتها الغربية، وما أثارته من مخاوف من التباين العقائدي بين الشريكين، وقد عمّق انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 المخاوف الصينية، على خلفية تراجع احتياج الولايات المتحدة إلى الصين لتطويقه؛ وزاد الطين بلةً انتشار القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، وما مثلته من تهديد جيوسياسي لها. وقد تزامن هذا مع وصول الزعيم الحالي، شي جين بينغ، إلى سدة الرئاسة، فأعاد الصين إلى التمسّك بالمعايير العقائدية وتحدّي الغرب في تصوراته السياسية والاجتماعية والأخلاقية.

ثارت حفيظة الولايات المتحدة من الفرق الهائل في الميزان التجاري بين الدولتين، ومن قرصنة الشركات الصينية التقنيات الأميركية الحساسة

أما الولايات المتحدة فثارت حفيظتها من الفرق الهائل في الميزان التجاري بين الدولتين، ومن قرصنة الشركات الصينية التقنيات الأميركية الحساسة، واستحواذها على نسبة معتبرة من حصة الشركات الأميركية في السوق العالمي. وهذا فتح الباب لتنافس اقتصادي وجيوسياسي علني ومكشوف بين الدولتين، بدأه الرئيس الأميركي باراك أوباما بالتباحث مع دول الإقليم لتشكيل تحالف اقتصادي لمواجهة تمدّد الصين في السوقين الإقليمي والعالمي، وتوقيع اتفاقية "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ" في 4/2/2016 مع كل من أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة، وفيتنام. وتابعه، بعد الانسحاب من الاتفاقية المذكورة، بشراسة أكبر، الرئيس السابق دونالد ترامب. وسار الرئيس الأميركي الحالي جوزيف بايدن على النهج ذاته، مع إضافة عنصر عسكري وأمني على التحرّك المضاد بتشكيل تكتلاتٍ إقليمية، تكتل الحوار الأمني الرباعي (كواد) الذي يضم مع الولايات المتحدة كلّاً من الهند وأستراليا واليابان، والذي استضاف الرئيس الأميركي قادته في البيت الأبيض يوم 25 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، لتفعيل التفاهمات السابقة، وفي مقدمتها تطويق الصين جيوسياسياً، وعزلها عن محيطها وتضييق مساحة حركتها برّاً وبحراً، وتحالفاتٍ مثل تحالف "أوكوس" الجديد، بالإضافة إلى تفعيل اتفاقية التعاون والتنسيق الاستخباراتي (يوكيوسا)، القديمة والمستمرة منذ 1946، مع كل من المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا؛ وتوظيفها جميعها في خطّة بايدن الصلبة، لمحاصرة الصين واحتواء تحرّكاتها ولجم طموحاتها الجيوسياسية، ليس في محيطها الإقليمي فقط، بل في كل المناطق، ورسم استراتيجية العلاقة مع الصين على قاعدة "أكبر تحدّ جيوسياسي في القرن الـ21"، بحسب وزير الخارجية أنتوني بلينكن.

نصبت الصين صواريخ "هايبرسونيك" على البرّ الصيني لمواجهة أي هجوم أميركي، وتعزيز علاقتها مع روسيا، التي تشاركها الموقف من الولايات المتحدة

قاد إدراك الصين الفجوة التقنية والعسكرية بينها وبين الولايات المتحدة إلى تبنّي استراتيجية من مستويين: الانخراط في تشكيل منظمات وتجمعات إقليمية ودولية، منظمة شنغهاي للتعاون، مجموعة بريكس، لاحتواء الضغوط الأميركية بإقامة أطواق وخطوط امتصاص جيوسياسية. التركيز على تطوير أسلحة، بحرية خصوصاً، باعتبار حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، اليابان والهند وأستراليا وفيتنام، قوى بحرية، حيث أصبح الأسطول البحري الصيني من أكبر الأساطيل في الإقليم؛ أكثر من سبعمائة قطعة بحرية حربية، بالإضافة إلى العمل على تطوير الترسانة النووية ومضاعفة عدد الرؤوس النووية أربع مرّات، بما في ذلك صواريخ "فرط صوتية" (هايبرسونيك)، ينطلق هذا النوع من الصواريخ في الطبقات العليا للغلاف الجوي بسرعاتٍ تزيد عن خمسة أضعاف سرعة الصوت، أو نحو 6200 كيلومتر في الساعة، يعود بعدها إلى الغلاف الجوي ويضرب هدفه، وقد أجرت تجربة لأحد هذه الصواريخ في شهر أغسطس/ آب الماضي، ما أثار قلق الولايات المتحدة، كما نصبتها على البرّ الصيني لمواجهة أي هجوم أميركي، وتعزيز علاقتها مع روسيا، التي تشاركها الموقف من تدخل الولايات المتحدة في شؤون الدول الداخلية، لتوفير الطاقة من مصدرٍ ليس معرّضاً لمخاطر العرقلة أو المنع، مشروع "خط قوة سيبيريا" الذي اتفقت مع روسيا على إنشائه عام 2014 وتبلغ قيمته 400 مليار دولار، لتصدير الغاز الروسي نحو الصين، وتوريد 38 مليار طن سنوياً من الغاز الروسي إلى الصين 30 عاماً، والحصول على أنظمة تسلّح عسكرية روسية متطوّرة وإجراء تدريباتٍ مشتركة، كما وثّقت علاقتها بإسرائيل للاستفادة من إنتاجها العسكري المتطوّر. والمتابعة الحثيثة لمشروع "الحزام والطريق"، برأس مال قدره تريليون دولار، وربط أكثر من مائة دولة به عبر استثمارات كبيرة في البنى التحتية والتنقيب عن النفط والغاز والمعادن والقروض الضخمة، وإقامة مرتكزات لخططها؛ قاعدة عسكرية في جيبوتي وميناء جوادر الباكستاني وميناء بيريوس في اليونان وإدارة ميناء أشدود الإسرائيلي، والدخول على تركيب شبكات الجيل الخامس في دول كثيرة، بما فيها دول حليفة للولايات المتحدة، كالمملكة المتحدة، والاستثمار في سندات الخزينة الأميركية بمبلغ ضخم قدره تريليون دولار، وتوظيف استياء دول حليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط من ضغوطها بخصوص الحريات وحقوق الإنسان؛ وانسحاب الولايات المتحدة الفوضوي والمرتبك من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على كابول للتشكيك في صدقية واشنطن لدى حلفائها وإبراز تراجع دورها على الصعيد الدولي، لمواجهة الولايات المتحدة في خطة من ثلاث مراحل: إضعاف النفوذ الأميركي في آسيا، الحلول محلها في المنطقة وصولاً إلى صياغة نظام دولي على مقاسها، وفق محللين أميركيين.

المعادلة الراهنة بين الدولتين، والنموذجين، دقيقة وحسّاسة على خلفية تشدّد الصين وتصلّبها في ملفات كثيرة، خصوصاً استعادة جزيرة تايوان

ردّت الولايات المتحدة على التحرّك الصيني الواسع بالاستثمار في التقنيات المتطوّرة، مثل الذكاء الصناعي والحوسبة والعمليات السيبرانية، إذ خصّصت أكثر من 66 مليار دولار من موازنتها للدفاع للعام الحالي (2021)، والبالغة 715 مليار دولار، للاستعدادات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، باعتبارها بؤرة للمواجهة مع الصين، وغيّرت انتشار السفن والعمل من مسافة في البحر أبعد بكثير مما كان في السابق، لتحاشي مديات الصواريخ الصينية، ووضع الأقمار الصناعية الاستطلاعية في مدار الأرض، كي تتمكّن من التقاط إشارة الأشعة تحت الحمراء من صاروخ باليستي تقليدي، وإعطاء تحذير سريع للقوات الأميركية، فمبادرتها الردعية في المحيط الهادئ تهدف إلى تعزيز استعدادها لحربٍ محتملة، وشيكة، حسب بعض المحللين، في المنطقة، من خلال تحديث الترسانة النووية وتمويل أنظمة الصواريخ والأقمار الصناعية وأجهزة التجسّس وإعطاء أولوية للقوات الجوية والبحرية. بالنسبة إلى الأميركيين، من الأهمية بمكان امتلاك القدرة على تدمير منشآت الصواريخ الصينية الـ"هايبرسونيك" على الأرض، قبل أن تنطلق في الجو.
المعادلة الراهنة بين الدولتين، والنموذجين، دقيقة وحسّاسة على خلفية تشدّد الصين وتصلّبها في ملفات كثيرة، خصوصاً استعادة جزيرة تايوان، وبسط سيطرتها على بحري الصين، الجنوبي والشرقي، وتوجّهها الحازم لاختراق الشرق الأوسط والتقدّم فيه عبر الانفتاح على دوله تجارياً واستثمارياً وتوظيف الملف النووي الإيراني في الضغط لإخراج الولايات المتحدة منه. فخسارة الولايات المتحدة معركة الدفاع عن تايوان الذي أعلنه الرئيس الأميركي، منذ أيام، ونجاح الصين في التمدّد في دول الشرق الأوسط، سيقودان إلى هبوطها إلى قوة عالمية من الدرجة الثانية، وإلى انهيار النظام الدولي الراهن، في حين ستصبح الصين القوة العظمى الأولى. وهذا سيمنحها مساحةً أكبر للمناورة والهيمنة، ما يحتّم عليها مواجهة القوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والعقيدة السياسية للصين، كي تتحاشى الهزيمة وضرب النظام الدولي الغربي، فالصين مصمّمة على كسر النظام الرأسمالي الليبرالي الذي بناه الغرب، وقائدته، الولايات المتحدة، التي تبذل جهوداً كبيرةً للدفاع عن قيمٍ تناصبها الصين العداء، مثل الليبرالية والأسواق الحرّة والشفافية والديمقراطية وحرّية التعبير، وكل تقدّم يحرزه أحد الخصمين في أي من مجالات التنافس سيسجل في صفحة نجاحات نموذجه، ويجعله أقرب إلى تحقيق هدفه الاستراتيجي: المحافظة على النظام الدولي القائم بالنسبة للولايات المتحدة وضربه لصالح بديل سلطوي بالنسبة للصين، والثمن ستدفعه الشعوب التي ستدور المواجهة على أراضيها وأجوائها، وبتمويل من مالية دولها.