هوامش حول إصلاح النظم الصحية

هوامش حول إصلاح النظم الصحية

20 نوفمبر 2021

مسعف خارج مستشفى لندن الملكي (12/11/2021/فرانس برس)

+ الخط -

تلقيت، خلال رحلتي مع السرطان في الأشهر الماضية، خدمات صحية متنوعة من سبعة مشاف بريطانية، تنوعت في أحجامها وفي ملكيتها الحكومية أو الخاصة، وكانت آخر المحطات عملية جراحية كبرى، استدعت إقامة نحو أسبوعين في المستشفى.
لا يسع المرء إلا أن يتأمل ويقارن مع الأحوال في بلادنا، خصوصا أن مسألة إصلاح النظم الصحية مما يندرج جانب واسع فيه تحت التقني لا السياسي. معروفٌ عالميا، على سبيل المثال، مدى التقدم النسبي الذي يحظى به النظام الصحي الكوبي، على الرغم من أنها دولة فقيرة ومحاصرة ونظامها دكتاتوري. وقد وضع المخرج الأميركي مايكل مور عدالة نظامها بالمقارنة رأسا برأس بالنظام الأميركي، في فيلمه "سيكو" (2007)، كما كان لكوبا دور بارز في تزويد دول أخرى بطواقم طبية، لدعم هذه الدول في أزمة وباء كورونا.
أول الملاحظات أن الأمر ليس إمكانات مادية فقط، بل التوفر العددي البحت من القوى البشرية أمر بالغ الحيوية. في يونيو/ حزيران 2021، بلغ عدد الموظفين في القطاع الحكومي البريطاني 5.68 ملايين موظف، نصيب الأسد منهم يذهب إلى هيئة الصحة الوطنية، بإجمالي 1.85 مليون عامل. وعلى الرغم من ذلك، تعاني الهيئة من عجز بالغ بعد رحيل أوروبيين كثيرين بسبب "بريكسيت". وهو عجز نسبي إذا قورن بالأرقام في دولنا العربية، فالنسبة هي 2.8 طبيب لكل ألف مواطن في المملكة المتحدة، مقابل 1.8 في تركيا، 1.7 في تونس، 0.5 في مصر، حسب البنك الدولي لعام 2018.
ثاني الملاحظات أن كفاءة القوى البشرية ونوعيتها أمر مصيري. ثمّة قائمة من التخصصات الأكثر حساسية، مثل أطباء الرعاية المركزة والطوارئ والتخدير، هم من الفئات الأعلى طلبا في الأخرى، وبالتالي عجزا في الداخل. وينطبق الأمر على طواقم التمريض الأعلى تدريبا، المخصصة للتعامل مع غرف الرعاية المركزة.
يعد عدد الأسرّة مؤشرا هاما ليس على الإمكانات المادية، وليس على أجهزة التنفس الصناعي فقط، بل أيضا على الكفاءات البشرية الأعلى تعليما وتدريبا. ولا عجب هنا أن تكون قائمة الدول الأعلى توافرا لأسرة الرعاية تكاد تطابق قائمة الدول الأكثر تقدّما اقتصاديا وعلميا، فالأعلى عالميا هي الولايات المتحدة بإجمالي 34.7 سريرا لكل مائة ألف مواطن، تليها ألمانيا 29.2 لكل مائة ألف. في المقابل، تغيب الأرقام الدقيقة أصلا في ذلك الجانب عن الدول العربية، لكن المؤشّرات لا تخفى، مثل تصريح وزير الصحة الأردني السابق سعد جابر، في عام الوباء، بأن بلاده تسعى إلى مضاعفة أسرة الرعاية المركزة إلى المثلين، وعددها 650 سريراً فقط للدولة كلها.
جانب ثالث، هو استقلال جهات الجودة والتقييم، وانفصالها التام عن جهة تقديم الخدمات الحكومية. هذا ما تقوم به في المملكة المتحدة لجنة جودة الرعاية (سي كيو سي) في ما يخص الخدمات الصحية. وبالمثل تقوم هيئة "أوفستيد" بتقييم المدارس الحكومية والخاصة. ويرتبط بهذه النقطة الوضوح التام للتوصيف الوظيفي لمهام كل فرد من العاملين ومسؤولياته، وكذلك وضوح "بروتوكولات" العمل، بدءا من الجوانب العلمية ونهاية بالصيغة التي يقدّم بها الممرض نفسه للمريض. مجالات الاجتهاد والفروق الشخصية تبقى محدودة، بينما أغلب مساحات العمل قابلة للقياس والتقييم.
كل ما سبق يأتي في سياق سياسي أوسع، فمخصّصات الصحة يتفاوض عليها نواب منتخبون ديمقراطيا، كما أن لمجالس الأحياء المنتخبة دور آخر، وهي بدورها تحصل على تمويل مستقل من ضريبة عقارية لا تدخل للحكومة المركزية. تتفاوض نقابة الأطباء على أجورهم، وكذلك يسلّط الإعلام الضوء بحرية على أوجه القصور.
كما أن للسياسة الغربية سلبياتها علينا، كما بعدم عدالة توزيع لقاحات كورونا عالميا. وكذلك من اللافت زيادة هجرة الكفاءات الطبية، استجابة لحوافز طرحتها الحكومات الأغنى لمواجهة الوباء، وإن كان الدور الأول يظل محليا للحفاظ على الكفاءات أو لاتخاذ خطوات إصلاحية جادّة.