هموم القيادة الفلسطينية الرسمية

خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين
كأنّ محرقة غزّة ليست شأناً فلسطينياً، وليست وجعاً إنسانياً... خرج علينا روحي فتوح (14/3/2025)، باعتباره المُعيّن رئيساً للمجلس الوطني الفلسطيني، بدعوة "أعضاء المجلس المركزي" إلى عقد اجتماعٍ بين 21 - 26 إبريل/ نيسان الجاري في رام الله. سوف يوزّع جدول الأعمال، إلاّ أنه سيتضمّن "تعديلاً وتنقيحاً لمواد في النظام الأساسي للمنظمة واستحداث منصب نائب رئيس اللجنه التنفيذية"، ونحمد الله تعالى أن المشكلات الفلسطينية مقصورةٌ على استحداث منصب وتعديل بعض مواد النظام الأساسي، ذلك أن تهجير 50 ألفاً من مخيّمات اللاجئين في جنين وطولكرم، وتدمير مئات البيوت، وذبح أهالي غزّة، هي شؤون من هموم المجتمع الدولي. مع ذلك، لا بدّ من التعليق على هموم القيادة الفلسطينية الرسمية كي نحاول أن نستكنه هذه الهموم، لعلّنا نساعدها في تخفيف أعبائها، مع العلم أنه ليس من مسؤوليتنا.
وقبل الولوج في القضايا التي تشغل ذهن القيادة الرسمية، لا بدّ أن نستذكر أن المرحوم ياسر عرفات ظلّ محتفظاً في مكتبه بالصيغة النهائية لنصوص ما يسمّى "القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية" بضع سنوات، إلى أن فرض عليه الرئيس الأميركي جورج بوش (بحسب ما سجّلته كونداليزا رايس في مذكّراتها) أن يعيّن محمود عبّاس رئيساً للوزراء. وهكذا عُدّل القانون الأساسي لاستحداث هذا المنصب، وأعيد ترتيب أبوابه ومواده، نزولاً عند رغبة بوش. ويبدو أننا في وضع مماثل حالياً، إذ لا بدّ أن مطرقةً أجنبيةً قد نزلت على رأس القيادة تطلب منها تسمية "نائب رئيس"، تمهيداً لكي تتولى شخصية ما مُعدَّة لهذا المنصب، فالقرار الوطني الفلسطيني "المستقلّ" يأتي من خارج القيادة، وهموم القيادة هي هموم الآخرين، وليست هموم شعبها. وبالعودة إلى الدعوة والمدعوين على حدٍّ سواء، هل يملك المجلس المركزي صلاحيات اتخاذ قرارات بهذا الحجم والأهمية؟ وهل ينسجم هذا مع الوثائق الأساسية لمنظمّة التحرير وقرارات المجلس الوطني؟
الدعوة إلى انعقاد المجلس المركزي باطلة ابتداءً، حين ينوي "المركزي" تناول أعمال سيادية تدخل في اختصاص المجلس الوطني
قبل الإجابة عن الأسئلة موضوع الدعوة، وما يترتب عليها من قرارات، يزعم كاتب هذه السطور إنها باطلة، وإن المؤسّسات الموجودة كلّها في الساحة الفلسطينية من مجلس وطني ومجلس مركزي ولجنة تنفيذية ورئاسة، انتهت صلاحيّتها، ولم تعد تمثّل شرعيةً وطنيةً، لا في جانبها الدستوري ولا في جانبها الثوري، بل جميعها في وضع "اغتصاب سلطة". ولا تعليق على شرعية السلطة الفلسطينية، ذلك أنها في أساسها جزءٌ من الحكم العسكري الإسرائيلي الذي قالت عنه محكمة العدل الدولية إنه غير شرعي. وبالنتيجة، كلّ ما ينتج من هذا الاحتلال غير الشرعي باطل كذلك. وقد كان عبّاس قد أصدر قبل ثلاث سنوات تقريباً قراراً حدّد، في إحدى حيثياته، أنه يستند إلى قرار المجلس الوطني في دورته الثالثة والعشرين "بتفويض المجلس المركزي الفلسطيني بمهام المجلس الوطني كاملةً"، وقد سبق أن عالج الكاتب بطلان هذا القرار، واعتبره بدعةً، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.
أن يتنازل المجلس الوطني عن مهامّه السيادية كلّها من رقابة وتشريع إلى جهة أخرى، حتى لو كانت هذه سياديةً، غير جائز على نحو مطلق، فالميثاق الوطني الفلسطيني والنظام الأساسي لمنظمّة التحرير لم ترد فيها أيّ نصوص بتفويض أيّ جهة أخرى بمهامها جزئياً أو كلياً. وتؤكّد المادّة 7 من النظام الأساسي أن "المجلس الوطني هو السلطة العليا لمنظمّة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمّة ومخطّطاتها وبرامجها"، وهو الذي ينتخب أعضاء اللجنة التنفيذية، ويملأ شواغرها. وتبيّن المادّة 10 سلطاته، أنه ينظر في التقرير السنوي الذي تقدّمه اللجنة التنفيذية، وفي تقرير الصندوق القومي، وفي أيّ توصياتٍ تقدّم له من اللجنة التنفيذية أو من لجان المجلس. هذه مهام سيادية، وليس للمجلس حقّ التفويض فيها، لغياب النصّ أولاً، ولأن مثل هذه القضايا لا يجوز التفويض فيها حسب المفاهيم العامّة للقانون الدستوري. والظن الغالب أن محمود عبّاس لم يستدرج رأياً قانونياً من "محام مستقلّ"، وذي خبرة في هذا الفرع من القانون. فمن أين جاء المجلس المركزي، وهل لديه السلطة لكي يفوّضه عبّاس بمهام المجلس الوطني كلّها؟.
لمؤسّسات الموجودة كلّها في الساحة الفلسطينية من مجلس وطني ومجلس مركزي ولجنة تنفيذية ورئاسة، انتهت صلاحيّتها، ولم تعد تمثّل شرعيةً وطنيةً
ولد المجلس المركزي بقرار من المجلس الوطني في دورته 13 في مارس/ آذار 1977 في القاهرة، ليكون حلقة وصل بين المجلس الوطني واللجنة التنفيذية بين كلّ دورتَين عاديتَين من دورات المجلس. شكّل المجلس المركزي وحدّدت مهامّه، والعضوية فيه من "اللجنة التنفيذية ورئيس المجلس الوطني وعدد من الأعضاء"، وجميعهم أعضاء في المجلس الوطني، ثم ألغي هذا القرار في الدوره 18 في 1984، وصدر قرار بانشاء المجلس المركزي ويرأسه رئيس المجلس الوطني، وعضويته من أعضاء اللجنة التنفيذية ورئاسة المجلس الوطني وممثّلين عن الفصائل والاتحادات والعسكريين والمستقلين. أمّا اختصاصاته فهي "اتخاذ القرارات في القضايا والمسائل التي تطرحها عليه اللجنة التنفيذية" و"متابعة تنفيذ اللجنة التنفيذية لقرارات المجلس الوطني". وتنصّ اللائحه الداخليه للمجلس على أن "يقوم مكتب رئاسة المجلس الوطني بمتابعة أعمال المجلس المركزي وتنفيذ قراراته"، وتنصّ الاختصاصات على "أن يلتزم المجلس المركزي بقرارات المجلس الوطني، ولا يجوز له تعديلها أو إلغاؤها أو تعطيلها أو اتخاذ قرارات تتناقض معها".
ومن مقارنة صلاحيات المجلس الوطني بصلاحيات المجلس المركزي، تبدو الصورة واضحة، فالأول هو "السلطة العليا"، والثاني يراقب اللجنة التنفيذية في "تنقيذ قرارات المجلس الوطني"، أيّ سلطة إدارية. يضاف إلى ذلك أن العضوية في المجلس المركزي تضم أعضاء اللجنة التنفيذية، فهل يستساغ أن تراقب اللجنة التنفيذية نفسها؟... فضلاً عن أن مكتب رئاسة المجلس الوطني هي التي تراقب المجلس المركزي، أيّ أن اليد العليا تظلّ للمجلس الوطني، ويظلّ المجلس المركزي "تابعاً" للمجلس الوطني. فكيف يكون مقبولاً أن يتولّى "التابع" مهام "سيده" كلّها؟... لا يستقيم هذا الوضع إذا قرأنا الوثائق قراءةً واعيةً.
المجلس الوطني هو "السلطة العليا"، والمجلس المركزي يراقب اللجنة التنفيذية في "تنقيذ قرارات المجلس الوطني"، أيّ سلطة إدارية
وإلى سند ممّا سبق، الدعوة الموجّهة من روحي فتوح، وما تضمّنته من بنود جدول الأعمال، مثل تعديل النظام الأساسي، واستحداث منصب رئيس اللجنة التنفيذية، باطلة ابتداءً، فبنود جدول الأعمال تنطوي على أعمال سيادية تدخل في اختصاص المجلس الوطني، ولا يملك "المركزي" صلاحية التقرير بشأنها، حتى لو تمّ تفويضه بذلك، لأن الميثاق الوطني والنظام الأساسي لم يمنح أي جهة سلطة التفويض.
تقتضي المسؤوليتان، الوطنية والأخلاقية، منكم، أولي الأمر في الهرم السياسي الفلسطيني، أن تنتفضوا لما يجري في غزّة، ومخيمات الضفة الغربية من محارق، لأن ما يجري يمسّ الناس جميعاً، وليس مقصوراً على غرمائكم في حركة حماس. إن شعبكم يحترق وأنتم تتلهّون في تعديل هذا النظام أو باستحداث منصب لنائب رئيس اللجنة التنفيذية الذي أصبح اسماً بلا مضمون. شعبكم في غزّة، وفي الضفة، يحترق، وإن لم تبادروا لإنقاذه ونجدته، من باب اللياقة الاستقالة، والذهاب إلى بيوتكم.


خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين