هل يُطْوى ملفّ النزاع حول الصحراء في ذكراه الخمسين؟
تحوَّل شهر إبريل/ نيسان من أقسى شهور العام بالنسبة إلى عموم المغاربة إلى الشهر الربيعي الذي يُغذّي أكبر الآمال، وأولها الأمل في إنهاء نزاع الصحراء الذي عمَّر نصف قرن. فمنذ قرابة عقد خطب العاهل المغربي أمام نظرائه قادة الدول في الخليج، بمناسبة القمّة الخليجية المغربية في الرياض (2/4/2016)، قائلاً: "أصبح شهر إبريل، الذي يصادف اجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء فزّاعةً تُرفع أمام المغرب، وأداةً لمحاولة الضغط عليه أحياناً، ولابتزازه أحياناً أخرى".
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وتحول الشهر الرابع إلى شهر الأمنيات كلّها، فعرفت مناسبة انعقاد جلسة مجلس الأمن حول الصحراء، يوم 41 إبريل/ نيسان الحالي للاستماع إلى إحاطتَين موسميَّتَين، لكلّ من القائد العام لبعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو)، الروسي ألكسندر إيفانكو، والمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، الإيطالي السويدي ستيفان دي ميستورا... عرفت اتفاقاً بين دي ميستورا وسفير المغرب وممثّله الدائم في الأمم المتحدة عمر هلال على أمنية واحدة، أن تكون الذكرى الخمسين للنزاع حول أقاليم المغرب الجنوبية تاريخاً للطي النهائي للملفّ. ختم دي ميستورا، الذي لم تكن لاجتهاداته حول تطوّرات الوضع في المنطقة آثارٌ كلّها إيجابية، إحاطته مع ذلك بالقول: "قد تصبح جلسة أكتوبر (تشرين الأول) المقبل فرصةً حاسمة لهذا المجلس لإطلاق خريطة طريق جديدة نحو حلّ نهائي للنزاع".
يضاعف من السياق الإيجابي في قضية الصحراء، التزام فرنسا العمل من أجل مقترح الحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية رفقة الولايات المتحدة
كان لعمر هلال، الذي عقد لقاء صحافياً متزامناً مع جلسة مجلس الأمن "الإبريلية"، التفاؤل نفسه بشأن النهاية الوشيكة لطيّ ملفّ نزاع الصحراء المغربية، وأعرب بتفاؤلٍ وطيدٍ عن أمله بأن "يشهد العالم نهايةً سعيدةً لهذا النزاع خلال الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء". ولم يكن شهر إبريل موعد الأمنيات والتقارير الأممية فقط، بل كان أيضاً شهراً تسارعت فيه الوقائع والأحداث ذات الصلة بالملفّ، وكلّها كانت حاسمة. أول حدث ذي دلالة أوجد أفقاً جديداً، كان الموقف الأميركي المُعلَن يوم 8 إبريل، بمناسبة اجتماع وزير خارجية الولايات المتحدة ماركو روبيو بوزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، وهو اللقاء الذي أعقبه بيان شكّل ترجمةً للمنعطف الجديد في الملفّ من زاوية الفعل الأميركي. وارتكز البيان إلى عدّة مقومات، أولها تجديد الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على صحرائه، وسبق أن أعلنه الرئيس دونالد ترامب في ديسمبر/ كانون الأول،2020 وهو موقف رفع كلّ التباس بعد مضي خمس سنوات على الموقف الأصلي. ولعلّ ما تبقّى من مقوّمات أخرى في بلاغ وزارة الخارجية الأميركية يمثّل ترجمةً عمليةً من خلال تحويل هذا الموقف الأميركي المبدئي خطّةَ عمل على أساسها تنوي أميركا، "حاملة القلم" في الملفّ، وصاحبة الرأي الحاسم فيه، وضع خريطة الطريق نحو الحلّ، من خلال اعتبار الحكم الذاتي (المقترح المغربي)، الإطار الوحيد والأوحد للحلّ، وبذلك جرى إسقاط ما سواه، من قبيل الاستفتاء المؤدّي إلى الانفصال، كما تتشبث به الأطراف المناهضة للمغرب، وإسقاط فكرة تقسيم الصحراء بين الفرقاء، والتي كان ستيفان دي ميستورا نفسه قد حاول الدفاع عنها في جلسة أكتوبر 2024، التي عقدها مجلس الأمن حول أقاليم المغرب الصحراوية.
المقوم الثاني، وله أهمية في تدبير الزمن، يخصّ "تسريع الحلّ" والخروج من دوامة التمطيط في ملفّ طال 50 سنة، في توافق مع دول حاسمة في موضوع الصحراء، منها فرنسا وإسبانيا، التي عبّر وزير خارجيتها خوسيه مانويل ألباريس عن أنه لم يعد مقبولاً انتظار 50 سنة أخرى. أمّا المقوم الثالث، فقد ورد في شكل التزام أميركي بالعمل على "تسهيل إحراز تقدّم نحو الهدف"، الذي يحدّد أفقاً مستقبلياً للحلّ. إن خطّة العمل التي تقرّ المقترح المغربي حلّاً وحيداً للنزاع، وتضع له سقفاً زمنياً قريباً، وتنبني على التزام أميركي عملي بتسهيل المفاوضات لإنهاء النزاع، جرى تبليغها للمبعوث الشخصي قبيل اجتماع مجلس الأمن بساعات قليلة، لتتضمنها إحاطته، وتشكّل جزءاً من وثائق الأمم المتحدة رسمياً.
بيد أن الخطوة الفعلية الأساسية كانت تعيين اللبناني الأميركي مسعد بولس مبعوثاً أميركياً، بل مبعوثا للرئاسة الأميركية مكلّفاً بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (منطقة مينا)، الذي مثّلث إطلالته الإعلامية في الموضوع حدثاً استأثر باهتمام كلّ الأطراف، تطلّب خرجةً ثانيةً لتأطير تصريحه وتوضيح مهمّته في إطار الموقف الأميركي. وما بين إطلالته الإعلامية الأولى (17 إبريل)، والثانية (18 إبريل)، اتضحت الرؤية، واستقرت الأطراف المعنية بالملفّ على حقيقة ما تريده أميركا من تحديد معايير كيفية الحلّ وليس الحلّ في حدّ ذاته. وفي تقدير كاتب هذه السطور، اضطر المبعوث الأميركي في قضية الصحراء مسعد بولس إلى خروجين إعلاميين في أقل من 24 ساعة، لإعلان طبيعة مهمته، ثمّ لتصحيح الإطار الذي تندرج فيه، حتى لا تشوب انطلاق مهمّته أيّ شائبة. وتأتي أهمية تصريحات المبعوث الأميركي إلى المغرب الكبير من مهمّة صاحبها ممثّلاً رفيع المستوى لترامب، ومن توقيتها، وما تتابع في هامش إحاطة دي ميستورا، ومن عدة ملاحظات أخرى، منها أنها المرّة الأولى في تاريخ النزاع التي تعيّن فيها الإدارة الأميركية وسيطاً معروفاً مُعلَناً عنه، بمهمّة واضحة تتجلّى في تقريب وجهات النظر بين الرباط والجزائر، وهو إقرار واعتراف بزاوية المعالجة التي يرافع المغرب من أجلها، التي تجعل النزاع إقليمياً. كما أن المبعوث الأميركي وضَّح موقعه في المفاوضات، وهو الموقع المساند لسيادة المغرب، وأيّ حديث بهذا المعنى سيكون تحت سقف هاته السيادة.
وسيعمل بولس من خارج الإطار المرسوم للمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة دي ميستورا، وبعيداً قليلاً من إكراهاته، بل يمكن تجاوز دي ميستورا في أيّ لحظة، كما في قضايا أخرى تعتمد فيها واشنطن النقاش مع الأطراف المعنية مباشرة في مناطق أخرى من العالم أكثر التهاباً. وبالنسبة لجزء من الرأي العام المغربي، الذي لا يُخفي ارتيابه من دي ميستورا، فإن المبعوث الأميركي هو المخوّل بتفسير معنى المواقف وتحديده، وبذلك فإن المبعوث الأممي، إذا كان يسمح لنفسه ببعض التأويل الذي يتيحه له هامش المناورة، فإن مسعد بولس سيعيد تأطيره كلّما استدعت الضرورة ذلك. أضف أن المبعوث الأميركي ليس ملزماً بالسقف الأممي القابل للتمطيط كما هو حال دي ميستورا، بل مرتبط بالتوقيت المستعجل الذي وضعته أميركا. وأخيراً، تعرف الأطراف الأخرى ماذا يحمل المبعوث الأميركي، عكس دي ميستورا، الذي يسهل الضغط عليه. وفي هذا المضمار، تملك أميركا "حاملة القلم" من الأوراق ما يؤهّلها للعب هذا الدور، ومنها صياغة القرارات التي تخصّ الصحراء، وفي تقديرنا فإن هاته الدولة لا يمكن أن تصوغ ثمّ تتفاوض، وبعدها تعرض للتصويت، وتسمح بتمرير قرارات تتعارض مع قناعاتها الذاتية والعمل على اتخاذ مبادرات، كما تنصّ على ذلك أعراف العمل داخل المجلس، والأمم المتحدة، ذات العلاقة مع الملفّ الذي تتولاه، ومن حقّها أن تبادر بدعوة الجهات المعنية إلى الطاولات المستديرة. وفي الختام، فإن واشنطن باعتبارها "حاملة القلم" يمكنها كذلك أن تتخذ مبادرات تخصّ أنشطة مجلس الأمن، من قبيل الاجتماعات العاجلة أو النقاشات التي تراها مناسبةً أو تحديد مهام محدّدة لوفود وبعثات من خارج البعثات الموجودة أصلاً. وهي كلّها وسائل مؤسّساتية، يتقاطع فيها العُرف الأممي مع القدرة السياسية في تدبير الملفّ.
أهم ورقة في الصمود المغربي في قضية الصحراء، الجبهة الداخلية وإجماع المغاربة على قدسية قضيتهم
وبخصوص ما هو "خارج النص"، لا يمكن أن تغيب عنا عناصر عديدة في تحليل الوضع الحالي. أولها أن واشنطن تعالج قضايا، ويمكنها أن تنشّط المسيرة نحو الحلّ، وهي تملك لأجل ذلك العديد من أوراق الضغط. وقد باشرت واشنطن العديد من المفاوضات، حتى من خارج مجلس الأمن الأممي في حالات التعذّر (أوكرانيا والشرق الأوسط). داخلياً، تظلّ أهم ورقة في الصمود المغربي هي الجبهة الداخلية، وإجماع المغاربة على قدسية قضيتهم، فقد استطاع المغرب، في ظرف زمن طويل، الصمود لحماية وحدة ترابه، واستطاع خلال ربع القرن الماضي تغيير كثير من معادلات القضية، وعرف تدبير إكراهاتها وسط التقاطب الدولي. ويظلّ السياق الدولي العام عنصراً فاعلاً لفائدة الأطروحة الوحدوية للمغرب، ومن ذلك وجود حاضنة دولية للحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية ( 110دول من أصل 193 في الأمم المتحدة مع المقترح، ضمنها تكتلات قويّة كالاتحاد الأوروبي، فـ22 دولة من أصل 27 تسانده، والإجماع العربي والإسلامي والتحولات في القارة اللاتينية). يضاعف هذا السياق الإيجابي، التزام دولة ثانية عضو دائم في مجلس الأمن، هي فرنسا، بالعمل من أجل الحلّ نفسه رفقة الولايات المتحدة. وبالرغم من قوة الورقتَين معاً، فإن المغرب لا يغيب عنه العمل من داخل الأمم المتحدة، وتركيزه في حصرية الإشراف الأممي على الملفّ، لأنه يدرك أن قرار الحسم سيكون أفضل من داخل الجهاز التنفيذي الأممي، الذي سيبارك ما قد تفرزه موازين القوة في الأرض، ومن خلال التحرّك الأميركي الفرنسي الإسباني المشترك. لهذا يبدو الربيع الصحراوي قد بدأ نحو إنهاء نصف قرن من نزاع مفتعل.