هل ينهي الحوار الوطني سنوات جمهورية الخوف في مصر؟
كم أتمنّى أن أكون مخطئاً في التقديرات المتشائمة بخصوص ما يمكن توقّعه من مسار الحوار الوطني في مصر، والذي انطلقت جلسته الافتتاحية قبل أيام. لا جدال في أنّ مصر بالفعل في أمسّ الحاجة إلى حوار وطني يؤسّس للسلام المجتمعي والسياسي بعد نحو عشر سنوات من معركة تكسير عظام شرسة خاضتها السلطة ضد كلّ مكوّنات المجتمع المدني والسياسي. لقد تكبّد المجتمع ومؤسسات الدولة كلفة باهظة، ستبقى آثارها عقوداً، في ظل استمرار ماكينة القمع والإقصاء بشكل منهجي في السنوات السابقة. وقد تركت سنوات جمهورية الخوف بصمتها على تعميق خلل الاقتصاد المصري، وتدهور الظروف المعيشية للمصريين. في هذا السياق، يمثل الحوار والتفاوض والتنازلات المتبادلة بين الفرقاء السياسيين بوابة الخروج الآمنة للمجتمعات التي مرّت بظروف مشابهة لمصر. ويبقى التعامل مع أبعاد أزمة حقوق الإنسان غير المسبوقة في مصر، والتي ترسّخت وتراكمت عبر السنوات السابقة، المدخل الأكثر إلحاحاً لأيّ حوار أو توافق وطني في مصر، وباعتباره المدخل الضروري لالتئام نسيج هذا المجتمع.
كان إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مبادرة الحوار الوطني في شهر إبريل/ نيسان من العام المنصرم (2022) مدفوعاً بالأساس بامتصاص آثار الأزمة المروّعة التي يعاني منها الاقتصاد المصري، والاحتماء في مشهد الحوار الوطني ومؤسّساته، والمشاركين فيه لاستمالة بعض الأطراف الشريكة والمانحة الدولية والإقليمية، وتجنّب ضغوطها سواء في ملفّ حقوق الإنسان، أو في التحفّظات والانتقادات التي أبدتها هذه الأطراف من الطريقة التي يدار بها الاقتصاد المصري على ضوء الشروط والتوصيات التي طالب بها صندوق النقد الدولي، والتي تكشف عن اختلالات الإدارة السياسية للاقتصاد، وسوء إنفاق موارد الدولة خلال السنوات السابقة. وليست مصادفةً جدولة موعد انعقاد الجلسة الافتتاحية لهذا الحوار الوطني أياما قليلة قبل زيارة وفد رفيع المستوى من الكونغرس الأميركي برئاسة رئيس مجلس النواب، كيفين مكارثي، مصر لتناول أولويات العلاقات المصرية الأميركية. وعلى الرغم من وضوح هذه الدوافع التي تثبت هشاشة مبادرة الحوار الوطني، فإن قطاعات واسعة من المعارضة المصرية داخل البلاد وخارجها اختارت التفاعل والاشتباك مع هذه المبادرة، ومحاولة التأثير في مساراتها باعتبارها فرصة لعودة السياسة، وفتح المجال العام. وفي هذا السياق، التفّت المعارضة السياسية، ونشطاء حقوق الإنسان داخل مصر وخارجها، أول مرّة في منتصف العام السابق، حول لائحة من المطالب التوافقية المحدّدة التي وجّهت إلى السلطة في مصر كإجراءات تهدف إلى بناء الثقة قبل الشروع في إعلان الموقف من المشاركة في الحوار الوطني. وقد هدفت معظم هذه المطالب، والتي كانت تدور بشكل أساسي في توفّر ضمانات الأمن والحرية والسلامة الشخصية للمصريين، إلى التخفيف من حدّة الوضعية الإنسانية البائسة التي تسبّبت فيها سياسات هذه السلطة وتشريعاتها ومحاكمها وسجونها. وقد اتسمت استجابة النظام الحاكم لهذه المطالب بالتناقض الصارخ، حيث تلت كلّ إجراء إصلاحي محدود سلسلة من الخطوات المضادّة التي تعيد تكريس المنظومة القمعية والأمنية.
تسعى السلطة إلى عزل المكوّنات السياسية والحقوقية الغائبة عن الحوار، وتقديمها محلياً ودولياً من الأصوات المتطرفة، والشاذة عن الإجماع الوطني
سعت السلطة منذ الإعلان عن مبادرة الحوار الوطني إلى أن تكون متحكّمة بالكامل في وضع قواعده ومؤسّساته، واختيار الأطراف المشاركة فيه، والعمل على تخفيض سقف توقعات المشاركين، عبر إجبارهم على قبول واقع سياسي يشهد يومياً استمراراً في الانتهاكات الفاضحة للحقوق والحريات العامة. ولتوسيع الخطوط الحمراء أمام الحوار الوطني، نشرت الجريدة الرسمية قبل حوالي أسبوعين من انعقاد الجلسة الافتتاحية للحوار الوطني قراراً بإدراج 81 شخصا في قوائم الإرهاب لمدة خمس سنوات، من بينهم شخصيات سياسية وإعلامية بارزة، وثلاثة من المشتغلين في منظمات حقوقية، لا علاقة لهم بالإرهاب أو العنف. واستمرّت السلطات في الاعتقالات التعسّفية ضد نشطاء سياسيين، بعضهم أعضاء في الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني، وطاولت الاعتقالات أقارب وأنصارا للمرشّح المحتمل في الانتخابات الرئاسية المقبلة البرلماني السابق أحمد طنطاوي، في مشهد يذكّر بالإجراءات الانتقامية والاستباقية التي اتُخذت ضد المنافسين للرئيس السيسي قبل انتخابات عام 2018.
سعت السلطة منذ الإعلان عن مبادرة الحوار الوطني إلى أن تكون متحكّمة في وضع قواعده ومؤسساته، واختيار الأطراف المشاركة فيه
لقد انطلق منطق القابلين بالمشاركة في أعمال الحوار الوطني من أن هناك اختلالات عميقة في توازن القوة بين السلطة الحاكمة والمعارضة في الوقت الحالي، وأن المشاركة في ظل هذه القيود تمثل الفرصة الوحيدة المتاحة للحصول على بعض المكتسبات السياسية. ومع التسليم بأن معادلة القوة، بعد سنواتٍ من القمع والتجريف السياسي، تسير في مصلحة السلطة الحاكمة. ولكن كان يمكن للمعارضة المصرية أن تتحد وتتمسّك بتحسين ظروف المشاركة إلى الحدود القصوى، سواء من حيث تطبيق إجراءات بناء الثقة قبل الحوار، وتعديل منهج الحوار وأولوياته، وتوسيع قاعدة المشاركة من دون إقصاء، خصوصا في ظل احتياج الحكومة مشهد الحوار الوطني لاحتواء السياق الاقتصادي والاجتماعي المتأزّم، واقتراب استحقاق الانتخابات الرئاسية المصرية العام المقبل. اتجهت السلطة بشكل واعٍ إلى استمالة قطاعات من المعارضة والمجتمع المدني داخل مصر للمشاركة في هذا الحوار وإقصاء قطاعات واسعة أخرى من المصريين، من ضمنهم النشطاء السياسيون والحقوقيون خارج البلاد، سواء من المقيمين في أوروبا أو الولايات المتحدة أو تركيا، والذي يبقى وجودهم في المنفى منذ سنوات بفعل بطش السلطة الحاكمة. وبحسب مصادر حقوقية، فقد تقدم ممثلون لبعض المنظمات الحقوقية خارج مصر بطلبات رسمية للعودة إلى مصر، والمشاركة في الحوار الوطني، لكنها قوبلت بالتجاهل أو الرفض من الأجهزة الأمنية. ويبدو أن السلطة في مصر قد نجحت بالفعل عبر أداة الإقصاء في مرحلة التحضير للحوار الوطني في إحداث انقسام في صفوف المعارضة المصرية والمجتمع الحقوقي، ويتوقع اتساعه كلما فشل هذا الحوار في التعاطي الجاد مع الأوضاع الإنسانية والحقوقية في البلاد. من ناحية أخرى، تسعى السلطة إلى عزل المكوّنات السياسية والحقوقية الغائبة عن الحوار، وتقديمها محلياً ودولياً من الأصوات المتطرّفة، والشاذّة عن الإجماع الوطني.
قد يساعد الحوار الوطني بالطريقة المختلة التي يسير عليها حالياً في تحقيق بعض الإجراءات التحسينية المحدودة في أوضاع حقوق الإنسان، والتي لن تخلو من انتقائية وعشوائية اعتدناها خلال العام الأخير. لكن أخطار هذا الحوار تبقى في تقديمه خدمة مجّانية جليلة تحتاجها السلطة الحالية لتجديد شرعيتها المنهكة داخلياً وخارجياً، واحتواء الأبعاد المجتمعية للوضع الاقتصادي البائس، والتمهيد لانتخاباتٍ رئاسية غير تنافسية العام المقبل، من دون اضطرار من الحكومة وأجهزتها الأمنية لإحداث تغيير نوعي في السياسات يؤدّي إلى التوقف عن المسّ بحقوق المصريين وكرامتهم، وتجاوز سنوات جمهورية الخوف.