هل ينتهي النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟
هل ينتهي النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟
كان حصول المستعمرات الفرنسية في أفريقيا على استقلالها، مطلع الستينيات، شكليا، فقد أخفقت الدول الوطنية في التحرّر من الهيمنة الفرنسية التي شملت مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتجلى ذلك، بالأساس، في استباحة فرنسا البلدان الأفريقية وتفقيرها، من خلال سياسةٍ محكمةٍ قامت على تحكّمها في هندسة نخبها السياسية والعسكرية والأمنية، ونهب ثرواتها الطبيعية الهائلة، ومنع أي محاولةٍ لتحرّرها الاقتصادي والثقافي. هذه السياسة أطَّرتها ''اتفاقياتُ تعاون'' مجحفة، تحوّلت، بمرور الوقت، إلى سيف مسلط على رقاب الأفارقة، حال دون استفادتهم، ولو ضمن الحد الأدنى، من عائدات ما تزخر به أوطانهم من ثرواتٍ لا تعد ولا تحصى. وطوال العقود الستة الماضية، لم تتردّد فرنسا في التدخل لتغيير الأنظمة والقادة، حين كانت ترى أن مصالحها في مستعمراتها السابقة مهدّدة. وتحتفظ الذاكرة الأفريقية بأسماء رؤساء حاولوا تغيير هذه المعادلة، ووضع شعوبهم على درب التحرّر الاقتصادي والسياسي والثقافي، فكان مصيرهم الاغتيال أو الإزاحة بتدخل فرنسي مكشوف، أبرزهم التوغولي سيلفانوس أوليمبيـو، والمالي موديبو كيتا، والبوركينابي توماس سانكارا.
يتعلق الأمر بصفقة استعمارية، بموجبها تستمر فرنسا في تقديم الدعم السياسي والأمني للدكتاتوريات الأفريقية مقابل إطلاق يد شركاتها الكبرى لنهب الثروات التي تزخر بها القارّة. ونتيجة ذلك أنه بعد عقود تجد البلدان الأفريقية نفسها، اليوم، غارقةً في الفقر والتخلف والاستبداد والفساد، على الرغم مما تمتلكه من موارد طبيعية (النفط، اليورانيوم، الذهب، الماس، الكولتان..). وعلى سبيل المثال، تمتلك النيجر، وهي من أكثر بلدان أفريقيا فقرا، أحد أكبر احتياطيات اليورانيوم في العالم، في وقت يعيش أكثر من 85% من سكانها بلا كهرباء نتيجة الاستنزاف الفرنسي الممنهج لهذا المعدن الثمين، هذا من دون الحديث عن التكلفة البيئية والصحية الباهظة لاستخراجه وتكريره.
في الصدد ذاته، تتحكّم فرنسا في جزء كبير من الاحتياطي النقدي للدول الأفريقية، إذ تلتزم الأخيرة، من خلال ''اتفاقيات التعاون'' سالفة الذكر، بإيداعه في البنك المركزي الفرنسي، ما يمكّن باريس من التحكّم في الفرنك الأفريقي، وتحويله إلى أداة رئيسة لتفقير هذه الدول وتعطيل عجلة التنمية فيها. كما تحتكر تزويد هذه الدول بالأسلحة والعتاد العسكري وتدريبَ جيوشها، وتتحكّم في سياساتها اللغوية والثقافية عبر المنظمة الدولية للفرنكوفونية. وذلك كله يجعل المصالح الفرنسية أكثر تشعبا وتغلغلا في مختلف مواقع صناعة القرار في أفريقيا.
تدرك فرنسا أن قاعدة رفض نفوذها السياسي والاقتصادي في أفريقيا تزداد اتساعا. ولمواجهة ذلك، تتذرّع بالاتفاقيات العسكرية التي تسمح لوحداتها العسكرية بالوجود في أكثر من بلد أفريقي، في سياق مجابهة تصاعد خطر التنظيمات الجهادية في منطقة الساحل وجنوب الصحراء. هذه الاتفاقيات تضخ في الاقتصاد الفرنسي موارد مالية خرافية، كان يمكن أن تُحدث الفارق بالنسبة للشعوب الأفريقية، وذلك بالحدّ من تدفق المهاجرين الأفارقة نحو فرنسا، ترفض دخولهم إلى أراضيها، وهي التي تتحمّل مسؤولية كبرى في الوضع المزري الذي وصلت إليه بلدانهم. وما فتئت جهاتٌ رسمية وغير رسمية في أوروبا تنتقد السياسة الفرنسية في أفريقيا، وقبل فترة شهدت العلاقات الفرنسية الإيطالية توترا على خلفية تصريحاتٍ أدلى بها ساسة إيطاليون بشأن مسؤولية فرنسا عن أزمة المهاجرين غير الشرعيين الذين يتسلّل عدد كبير منهم إلى أوروبا عبر السواحل الإيطالية.
حالة الرعب التي انتابت فرنسا جراء مطالبة النظام الجديد في مالي بإنهاء وجودها العسكري في البلاد، لا يمكن تفسيرها إلا بخوفها من تشكُّل كرة ثلج تتدحرج سريعا بين مستعمراتها السابقة، ما قد ينذر بأفول نفوذها، هذا بالتوازي مع قلقها المتنامي من التغلغل الاقتصادي والعسكري للصين وروسيا في أفريقيا، بما يعنيه ذلك من تهديد جيوسياسي لمصالحها على المدى البعيد.