هل يمكن إنقاذ الديمقراطية في تونس؟

هل يمكن إنقاذ الديمقراطية في تونس؟

27 يوليو 2021
+ الخط -

لم تكن خطوة الرئيس قيس سعيّد مفاجئة للمراقبين للشأن التونسي، نظرا إلى خطواته الكثيرة في الفترة الماضية، وتعكس رؤية رجلٍ وجد في كرسي الرئاسة ضالّته للاستحواذ على كامل السلطة، غير مكترثٍ لمشكلات الديمقراطيات الناشئة، ومنها الديمقراطية التونسية، والتي لا يكون حلها إلا بمزيدٍ من العمل الديمقراطي والمؤسساتي والقانوني، وليس بتعطيل العمل السياسي بفعل غرائز نفسية أحلت النكاية والعناد محل الصبر المؤسساتي، ورغبة جامحة في الاستحواذ على كامل السلطات (تكليفه رئيس الحكومة ومحاولة إزاحته من خارج الأطر البرلمانية، رفضه استقبال الوزراء لتأدية القسم، رفضه إنشاء محكمة دستورية تعتبر ضرورية جدا في الديمقراطيات الناشئة، كجهة فصل قانوني ومؤسساتي للنزاعات، ويكون لها وحدها إمكانية تفسير مواد الدستور).
قد يكون لحركة النهضة والقوى السياسية الأخرى أخطاؤها خلال صيرورة الحكم، وهو أمر طبيعي في دولة ومجتمع يعاد هندسته على أسس مغايرة لأسس الحكم السابقة. ولكن تجاوز الأخطاء، إن كانت هي سبب المشكلات الداخلية، لا يكون بالانقلاب على الديمقراطية، وإنما يكون إما بالاحتكام إلى تسويات سياسية/ قانونية، أو باللجوء مجددا إلى الشارع الذي يملك الكلمة الفصل في صناديق الاقتراع.

الجيش التونسي لم يتحوّل بعد إلى مؤسسةٍ محترفة، فما منعه قبل عشر سنوات من الوقوف إلى جانب نظام بن علي، هو إدراكه المبكر أن الثورة ستنجح

أخطر ما في الأمر أن الجيش دخل في اللعبة السياسية، وانحاز لطرف على حساب الطرف الآخر، وهذه قد تشكّل تحولا مهما في الانقضاض على الديمقراطية وإرثها الوجيز في تونس. .. وعقودا، ظل الجيش التونسي، كمؤسسة عسكرية، محايدا تجاه السياسة، وكان من نتيجته في أثناء الثورة وقوفه مع الدولة وليس مع النظام، وهذه خصوصية تونسية يؤكّد عزمي بشارة عليها، حين قال "إن وجود جماعة وطنية تفهم نفسها على هذا المستوى كشعب في علاقة مع الدولة، وتتحوّل في خيال الفرد إلى جماعة يتخيّل أنه ينتمي إليها هو بالضبط ما يمكن من فصل الشعب عن النظام في لحظة الثورة، من دون أن ينقسم إلى جماعات، وإن البنية نفسها هي التي تمكّن الدولة من التضحية بالنظام والانفصال عنه دون أن تنهار، وتمثلت هذه الخطوة في تونس بحيادية الجيش".
من الواضح أن الجيش التونسي لم يتحوّل بعد إلى مؤسسةٍ محترفة، فما منعه قبل عشر سنوات من الوقوف إلى جانب نظام بن علي، هو إدراكه المبكر أن الثورة ستنجح. أما تدخّله اليوم، فأسبابه غير معروفة، هل هي رغبة في العودة إلى المشاركة في الحكم، أم قناعته بمصداقية مطالب قيس سعيّد، أم قناعته بأن الوقوف إلى جانب طرفٍ سيؤدّي إلى إنهاء الأزمة السياسية المستفحلة؟
من الصعوبة بمكان الإجابة على هذه الأسئلة الآن. ولكن على المستوى النظري يصعب إعادة تكرار النموذج المصري عام 2013 في تونس، فلا وجود لمؤسسةٍ عسكريةٍ قوية متوغلة في الاقتصاد والمجتمع، ولا وجود لشخصيةٍ عسكريةٍ على رأس السلطة، كما كان الأمر مع عبد الفتاح السيسي في مصر.

حتى لو وصل الأمر إلى الإقصاء التام، لن يكون أمام القوى السياسية المقصاة إلا التماسك على يد واحدة

تتطلب هذه اللحظة وعيا عاليا على مستوى النخب وعلى مستوى الشعب: بالنسبة للنخب، لن يكون أمامها إلا الأدوات المؤسساتية والسياسية لمواجهة الانقلاب، ومن الخطورة بمكان الاحتكام إلى سياسات الهوية أو إلى العمل المسلح، فهذان الأمران سيضعفان من مصداقيتهما في الشارع لصالح الرئيس سعيّد والجيش. وحتى لو وصل الأمر إلى الإقصاء التام، فلن يكون أمام القوى السياسية المقصاة إلا التماسك على يد واحدة، والاحتكام للشارع في العملية الانتخابية المقبلة. وبالنسبة للشارع، من المهم إجراء فصل بين الرغبات (والأمنيات) ما هو في صالح البلد، فليس التدهور الاقتصادي واستشراء الفساد والمحسوبية مرتبطا بهذا الفصيل أو ذاك، فقد علمتنا التجارب التاريخية أن المجتمع والدولة يدخلان بعد سقوط الاستبداد في مرحلةٍ انتقاليةٍ من سماتها الأساسية الاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتنشأ فيها شخصياتٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ مغمورة، ليس لها أي تاريخ أو وزن محلي.
من المهم للتونسيين الإدراك أن الانقلاب على حركة النهضة وحلفائها ليس انقلابا على فصيل بعينه، بقدر ما هو انقلابٌ على الديمقراطية ذاتها. وفي حال نجح ذلك، ستكون العودة إلى الديمقراطية في غاية الصعوبة، والمثال المصري حاضر في الأذهان. وإذا كانت مصر تفتقد لطبقة وسطى قوية حاملة للمشروع الديمقراطي، فإن تونس تمتلك هذه الطبقة، وسيكون منوطا بها مواجهة الانقلاب السياسي ـ العسكري. ولذلك هناك فرصة لإنقاذ الديمقراطية التونسية.