Skip to main content
هل يغيّر الوباء علاقتنا بالموت؟
دلال البزري

الموت هو الحدث الأهم بعد الولادة، بعد الحياة. إنه نقيضها. ومن دونه، لا معنى لها، أو يكون لها معنى آخر. والسؤال الذي يصرّ الموت على طرحه لا توجد إجابة عليه. بوجهه، يندفع الأحياء إلى القيام بحركة، بفعل ما، أو لقول شيء ما. وتكون طقوس الموت التي تطوّرت من زمان، ورستْ على الشكل الذي نعرفه الآن.

وهذه الطقوس قديمة، ومتنوّعة بتفاصيلها. تختلف باختلاف الثقافة والدين وأشياء أخرى. ولكنها كلها تُجمع على التقاء الناس ببعضها. يصلّون مطولاً، يعزّون، يمسكون بأيادي المفجوع، يحضنونه، يقبّلونه، يواسونه، يمشون في الجنازة، يتفنّنون بربط الزهور أو نثرها، يسهرون على الراحل وهو مسجّى، يلقون عليه النظرة الأخيرة، يتناولون الطعام عن روحه، أو قطعة حلوى، يقولون عنه كلاماً حسناً، يدعون له بالرحمة الإلهية. ويتذكّرونه في اليوم الثالث على وفاته أو الأسبوع أو الأربعين يوماً، أو السنة أحياناً .. ولا دلالات لطقوس الموت من دون هذه الكثرة من الناس. يرتفع عددهم في طقوس العزاء بارتفاع شأن الراحل: نجم من بين نجوم المجتمع أو الفن، رجل دولة، زعيم، وجيه، أو أحد المشاهير ..

قد يكون الهدف "الوجودي" من طقوس الموت هذه أن يتحقّق المشاركون فيه بأن الموت حصلَ فعلاً. بأن الغائب يغيب إلى الأبد. وإن كان المؤمنون من بينهم يقولون إنه لم يمُت، إنما انتقلت روحه إلى الأعلى، أو انتقلت الى جسم حيّ آخر، يحمل منذ ولادته "الكارما"، أي الحصرم أو الحظ السعيد الذي ورثه من الراحل (هندوس).

قد يكون الهدف "الوجودي" من طقوس الموت أن يتحقّق المشاركون فيه بأن الموت حصلَ فعلاً

ومشاركة الجماعة المحيطة بطقوس العزاء بالميت هي التي تُعطي المعنى المُبتغى منها. من دون الشهود، من دون حضورهم، يفقد الموت معناه المعروف، أو المعنى المتَوافق عليه، حتى الآن، من المجموعة البشرية. مثله مثل طقوس العرس، ذات الجمهور الواسع أيضاً الذي يُطلب منه التصديق على قران. ولكن ببهجةٍ تقف على نقيض الحزن الطاغي على طقوس الموت.

الوظيفة المرجَّحة لهذه الطقوس؟ إعادة تنظيم الأشياء والوقت والوشائج والأحداث.. التي كَسَرها الموت. وإلى وضع الإنسان الحيّ أمام حقيقة الموت، تصديق الموت، تجسيده بالغياب. وإلى التعبير عن المشاعر الفياضة المكروبة التي يشعلها هذا الحدث الكبير. إلى تكريم الفقيد، والتعبير عن الثقة بأنه سوف ينعم بحياةٍ أخرى، أرحم، وبأن خسارته أكيدة، بعدما شهد عليه كل هؤلاء الناس. وكلما فاضت الكثرة، وجرى الدفء في قلب المفجوع، احتاج هذا الأخير أن يكون وحيداً، ليهضم فاجعته بالصمت، بالعزلة، ولو المؤقتة عن الناس.

استطاع الإنسان الحديث أن يتجاوز مشكلة التجمّع البشري في العزاء أو الجنازات أو الصلوات بأن اخترع "المقبرة الافتراضية"

والحال أن الوباء، ومنذ ما يزيد عن السنة، فرضَ على البشرية أن تبتعد بعضها عن بعض. التجمعات تحت نظام الحماية من الوباء كانت أولى الممنوعات. لا تجمّع في الشارع، في الساحات، في البيوت، في المطاعم، في الحدائق، في المخازن، في المقاهي، في وسائل النقل العامة .. ولا تجمّع، لا ازدحام، لا احتشاد .. لا في الأفراح ولا في الأتراح. بل في بداية انتشار الوباء، حُرِم المفجوعون والأقارب من رؤية عزيزهم، عشية موته، كما بعدها. كانت قاسيةً جداً إجراءات الموت في البداية، وقضت على طقوس الموت التي لا مغزى لها من دون التجمعات. ومع الوقت، تحلْحلت قليلاً الإجراءات، وأصبح في وسع واحد أو اثنين من الأهل أن يروا الميّت من خلف زجاج. طبعاً، ممنوع الجناز أو الصلاة أو أي فعل آخر من طقوس الموت، إلا لعدد مختصرٍ جداً من الناس. وقد يكون من بين المفجوعين مسافرون، لن يتمكّنوا من رؤية فقيدهم، لأن الوباء ضربَ في طريقه إمكانات السفر أيضاً.

هكذا، اقتصرت طقوس العزاء والمواساة لدى ملايين من الناس على التلفون أو الكبْسة على الخبر في المواقع الاجتماعية .. وكله من بعيد لبعيد. والمرء المعزّي جالسٌ على كنَبَته، يتصفّح موقعاً بعد آخر. وتكون النتيجة أن "الخبر" وصل إليه، ولا شيء بعد ذلك كله، سوى النسيان أن فلان توفي، وأن إصابته كانت وباء، أو واحداً من حوادث الموت التي لم نعُد نعير لها الانتباه، فيصبح الموت في هذه الحالة مثل غيمة طارئة ثقيلة، تغير على الذاكرة بغْتة، ثم تختفي، لتحضر أخرى... يحضر الأموات في أيام الوباء ويغيبون. كأنهم لا أموات ولا أحياء. فيكون الموت في هذه الحالة فكرة قريبة من التجريد، أو اللامحسوس. وبذلك، بدل أن يستكين القلب إلى حقيقة الموت، فيستريح بحزنه... يتحوّل الموت إلى شبح يومي، يزورنا من حيث لا ندري، والأموات حاضرون-غائبون، كما لم يحضروا أو يغيبوا يوماً. شبح محمَّل بالدهشة والرعشة والرهبة... وأحياناً الهلع.

ومفارقة عجيبة: الوباء يحاصرنا، بتهديدنا بالموت. الموت حاضر على الرغم من حالة السكون التي يتسبَّب بها إغلاق الأبواب على حركة البشر. ولكن في الآن عينه تنقصه مشهدية كثرة الموت الذي يوزّعه الوباء، بالجموع الماشية خلف نعش، أو المصلية عليه... ما يعني، في هذه الحالة، عندما يأتي خبر وفاة عزيز، أو مجرّد معرفة عامة، فإن منع إجراء الطقوس المناسبة لموته جماعةً يحول موته إلى خبر من بين الأخبار .. فلم تقم مع الجماعة بالحِداد، وأبطلت بذلك الدفاعات القديمة، الجماعية، في مواجهة حقيقة حصول الموت.

الموت حاضر على الرغم من حالة السكون التي يتسبَّب بها إغلاق الأبواب على حركة البشر

وهل تعتقد أن الإنسان، تحت وطأة الوباء، استسلم نهائياً لحرمانه من هذه الطقوس المأتمية؟ كلا. بفضل التكنولوجيا، وتسارع قدراتها، استطاع هذا الإنسان الحديث أن يتجاوز مشكلة التجمّع البشري في العزاء أو الجنازات أو الصلوات بأن اخترع "المقبرة الافتراضية". ربما ثمّة مقابر افتراضية أخرى، ليست واضحة حدود انتشارها. ربما تحتاج إلى تقصٍّ تكنولوجي. ولكن المهم، أن هذه المواقع تقدم نفسها على أنها بديل عن طقوس الحِداد المعروفة، خصوصاً في الشرق، فمؤكد أن الذي اخترع هذا النوع من المنصّات الافتراضية ليس من ذوي التعلّق بطقوس أي دين من الأديان المعترف بها. أقصد أنه أكثر ميلاً إلى فقر طقوس الموت والحِداد عند الغربيين، عكس الشرقيين الذين يبالغون أحياناً بها. هذا "الاستعداد النفسي"، الذي يسمح بالتخفّف من فروض الطقوس التقليدية، قرّب المخترع من اختراعه، فكانت "المقابر الافتراضية" التي تستقبل أشكالاً من "المشاركات". وفي الموقع أبواب مختلفة كلها تصبّ بالفقيد: هل تريد أن تزرع شجرة، تخليداً لذكرى الراحل؟ أو ترسل باقة زهور إلى أقاربه أو أصدقائه، أو لوضعها على قبره؟ أو بطاقات العزاء، المكتوب عليها كلمات لطيفة، والمرسومة بعناية، وبذوق رفيع؟ أو أن تُنْزل ورقة نعوة؟ أو تزور الماغازين الذي نصدره؟ هل تحتاج إلى صاحب مهنية عالية، يساعدكَ على تنظيم الدفن، أو يدعمكَ معنوياً في فجيعتك؟ الموقع يقدم كل هذه الخدمات.. وفوق هذه العروض ثلاث خانات: المشتريات، ابحث عن فقيد، حسابكَ في الموقع.

هل يتطوّر الوباء فيصبح الموت أكثر حضوراً وغياباً في آن؟ أم ينتهي، وتعود البشرية إلى سابق حزنها، فتجتمع كما كانت تفعل منذ آلاف السنين؟ أم فعلاً هذه "المقابر الافتراضية" سوف تغزو أسواق الموت بطقوسها الافتراضية؟ بحسناتها العديدة، صحية، معقّمة، مربحة، نظيفة، سريعة، فيتغير تصوّرنا للموت بعد الوباء، أو علاقتنا به؟ كما تغيرت أشياء كثيرة؟