هل يعيد "الأمويون الجدد" وصل شعرة جدّهم معاوية؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
عند دخوله دمشق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، توجّه أحمد الشرع إلى الجامع الأموي. ومن منبره العتيق العريق ألقى خطابه، مُرسلاً رسالةً واضحةً وذات دلالةٍ قويّةٍ لنهجِ الحكم الجديد. كانت الفرحة غامرةً والإحساس بالنصر عارماً عند معظم السوريين والسوريات، وكان جمهور الثورة وقتها أكثر من فرح لأنّه أكثر من قدّم التضحيات. وفي حفل تأدية اليمين الدستورية أمام الرئيس الشرع، بعد تنصيبه بصفته هذه في مؤتمر إعلان النصر، وبمناسبة تشكيل الحكومة الانتقالية، استهلّ وزير الثقافة السوري محمد صالح كلمته ببيتي شعرٍ جميلَين، نعيدهما هنا لتكاملهما مع السردية السورية الجديدة التي ابتدأ الرئيس رسم ملامحها في خطابه المذكور: لقد صُمنا عن الأفراح دهراً/ وأفطرنا على طبق الكرامة/ فسجّل يا زمان النصر سجّلْ/ دمشقُ لنا إلى يوم القيامةْ".
جرى احتكار الفضاء العمومي من خلال الهيئة السياسية المُستحدَثة بقرار من وزير الخارجية
مع مرور الأيام، وفي غمرة النصر على طاغية العصر، ولأنّ المهزوم الهارب كان قد أغرق البلاد بالمليشيات الطائفية الحاقدة، ولأنّ الشعور العام عند الغالبية الساحقة من الشعب كان عميقاً بخطر التغيير الهُويَّاتي لسورية، ولإدراك النُّخب من كلّ الأصناف السياسية والفكرية ضرورة تمزيق الوجه كالح السواد، الذي غطّى البلاد ردحاً، فقد مرّت بيسر عباراتٌ جديدةٌ دغدغت مشاعر الناس التوّاقين إلى العودة إلى جذورهم.
من هذا القبيل، كان التغنّي بـ"الأمويّة"، مرجعيةً أو صفةً أو رمزاً أو سمةً للدولة الوليدة، أمراً مفهوماً على اعتبار السياق التاريخي الذي استعمل فيه المجرمون السردية المعاكسة تبريراً لوقوفهم مع نظام الأسد. كذلك بدأت تطبيقات الرؤية تظهر في الممارسة العملية شيئاً فشيئاً، فبعد مقولة "من يحرّر يقرّر"، بدأ الاستئثار بكلّ السلطات في الدولة، وبجميع المؤسّسات، من طيفٍ واحدٍ ضيّق تمثّل بالفئة الناتجة من هيئة تحرير الشام المنحلّة. عدا تركيز السلطات الثلاث الرئيسة في البلاد بيد الرئيس، تمّ تركيز مفاصل الاقتصاد بيد أفراد عائلته والمقرّبين منه، وكذلك جرى احتكار الفضاء العمومي من خلال الهيئة السياسية المُستحدَثة بقرار من وزير الخارجية، وهذه أتاحت لنفسها أن تأخذ، ليس مقرّات حزب البعث المنحلّ فقط، بل وأدواره التي لعبها منذ العام 1963، من خلال مؤسّسات القيادة القُطرية وفروع الحزب وشُعَبه في كلّ نسيج الدولة. ولأنّ التاريخ السوري أكبر وأعمق وأوسع بكثير من تلك الجذور التي هي جزءٌ من كلٍّ، وليست الكلّ ذاته، ولأنّ سورية ضاربة في الماضي البعيد، وحاضرة منذ بدء التاريخ البشري المكتوب، وتشهد على ذلك آثارها التي تملأ الأرض والمتاحف والأساطير، كان لا بدّ من العودة إلى هذه النقطة مجدّداً بعد زوال الحالة الشعورية العامّة التي سادت آنذاك. ...
بدأت النقاشات تتعمّق حول هُويَّة الدولة، وبدأت الاعتراضات على إدارتها بيد المجموعة المصغّرة المقرّبة من الرئيس. من هنا كانت سهام النقد موجّهة لكلّ ما أُعلِن من خطواتٍ رسميةٍ لتثبيت أركان الحكم الجديد والدولة الناشئة، بدءاً من إعلان النصر ومروراً بالإعلان الدستوري وبتشكيل الحكومة الانتقالية، وصولاً إلى أيّ قرار يصدر اليوم من قمّة هرم السلطة إلى أدنى درجاتها.
الفرص لا تبقى على حالها، بل قد تنقلب تحدّياتٍ إذا لم تُستثمَر في وقتها جيّداً
عندما يتغاضى المهندسون عن ميلٍ بأجزاء من المليمتر لا تكادُ تُذكر في بداية إنشاء سكّة الحديد، عليهم أن يتوقّعوا وصولها إلى مدينة ثانية غير التي في المخطّطات الهندسية. هكذا بدأ العوار من إقصاء الثوار تحت شعار انتهاء مرحلة الثورة وبدء مرحلة الدولة، ثمّ تتابع النهج بإقصاء السياسيين بحجّة عدم وجود أحزاب وكيانات سياسية حقيقة، ووصل إلى إقصاء السياسة ذاتها عن الفضاء العام بحجّة التحدّيات من الفلول والانفصاليين والمخرّبين، ثمّ بدأ فضاء التنوّع والحرية يضيق شيئاً فشيئاً حتى بات الاعتقال خارج إطار القانون شائعاً، وبات الموت تحتّ التعذيب وارداً، وبات القتل على الهُويَّة ممكناً، وأصبح انفلات سلاح بعض الجهات مبرّراً، وصار الاستقواء بالفزعات وبالطوائف والتمترس وراءها شيئاً معتاداً.
الفرص التي أتيحت للسلطة الراهنة في سورية تُعدُّ ولا تُحصى، والاحتضان العربي كان أكثر جلاءً من أن تخبئه غمامة من هنا أو هناك، وأهمّ من هذا كلّه، كان الدعم الشعبي الهائل في بداية التأسيس، لكنّ الفرص لا تبقى على حالها، بل قد تنقلب تحدّياتٍ إذا لم تُستثمَر في وقتها جيّداً. ولم تُعطِ المؤشراتُ الأوليةُ الصادرة عن السلطة الجديدة في دمشق الطمأنينة للغالبية المتضّررة من جرائم الأسد ونظامه، فمسار العدالة الانتقالية لم يكن مشجّعاً لأهالي الضحايا، هؤلاء الذين يروْن قاتلي أبنائهم في رأس وفود السلم الأهلي لا يمكن أن يقبلوا بما يمسّ جرحهم وكرامتهم، ولا يمكن أن يفهموا (ولا أن يتفهموا) ضرورات السياسة عندما تقتضي الصفح عن كبار المجرمين أيضاً. العائلة التي تعيش حالياً في المخيّمات لعدم قدرتها على العودة إلى مدينتها أو قريتها أو حيّها المُسوّى بالأرض، أو التي نقلت الخيمة إلى أنقاض منزلها، لن ترضيها إعلانات المشاريع الاستثمارية والفراشات الطائرة، فهذه إن حصل ونفّذت لن تكون للعائلات المنكوبة التي لا تملك شروى نقير، بل هي باب واسع لاستفادة فئات نخبوية جديدة لا علاقة لها بالناس الذين دفعوا ثمن التغيير ولم يحصلوا منه على شيء. ثمّ جاءت أحداث الساحل السوري وأحداث جرمانا وصحنايا وأشرفيتها، وأخيراً أحداث السويداء، لتزيد الشكوك في طرق معالجة السلطات الجديدة للقضايا الوطنية الكبرى.
طبعاً، لا يقدح هذا كلّه بحجم التحدّيات والضغوطات التي يواجهها الحكم في دمشق، فملفّ شمال شرقي سورية والمفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة، والرفض المطلق لهذه السلطة من بعض ممثّلي الدروز كالشيخ الهجري، منذ اليوم الأول لسقوط النظام من جهة ثانية، وملفّات الطاقة والمياه والوظائف وغيرها كثير ممّا أورثته حرب النظام البائد على الشعب من جهة ثالثة، كلّها تحدّيات تقف عقبة كأداء في طريق الانتقال السياسي السلس.
تركيز السلطات وعدم مشاركة الناس في مصائرها وفي صناعة المستقبل السوري، هو بالذات ما سيعيد إنتاج أسباب الصراع
هذا صحيح، لكن ما ليس صحيحاً أنّ الاستئثار والمركزية الشديدة هما مخرجٌ من الأزمة، بل على العكس، تركيز السلطات وعدم مشاركة الناس في مصائرها وفي صناعة المستقبل السوري، هو بالذات ما سيعيد إنتاج أسباب الصراع، وقد يؤدّي، بالنتيجة، إلى حرب أهلية لا تُبقي ولا تذر لا سمح الله! ورد في كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه، وفي كتاب "تاريخ دمشق" لابن عساكر، ما ينسب إلى معاوية بن أبي سفيان أنّه قال: "إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت". ومعروف عن معاوية كيف استفاد من الصراع القبلي بين القحطانيين والعدنانيين (الذين يُطلق عليهم أيضاً اليمانية والقيسية) لتثبيت دعائم حكمه، فقد استطاع إيجاد توازن دقيق جعل حكمه من أطول فترات الحكم الإسلامي. هذه البراغماتية التي ميّزت حكم معاوية هي التي يفتقدها ورثته، أو من ينسبون أنفسهم إليه بشكل غير مباشر عبر مؤيّديهم وأنصارهم. فهل كان صعباً على القيادة في دمشق ترك مسألة السويداء فترة من الزمن حتى تتمكّن الدولة الناشئة وتثبّت أقدامها، وهل كان ضرورياً اللجوء إلى السلاح لحلّ معضلة كان يمكن حلّها بالتفاهم، وهل من الحكمة في مكان إفساح المجال لإسرائيل لتكون طرفاً بين الدولة السورية وأهالي إحدى محافظاتها؟ وأخيراً... هل يعيد الأمويون الجدد وصل شعرة جدّهم معاوية، أم يبقون على سيفه فقط حكماً بينهم وبين الناس؟
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.