هل يطيح ترامب مادورو؟
يُنعش إعلانُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب احتمال توجيه ضربة عسكرية إلى داخل فنزويلا ذاكرةً مثقلةً بانقلابات وتدخّلات أميركية في دول أميركا اللاتينية، من غواتيمالا في الخمسينيّات إلى بنما في أواخر الثمانينيّات، ويضع على الطاولة السؤال: هل تمارس واشنطن ضغطاً تكتيكياً على فنزويلا أم هي بداية مسار يهدف إلى إطاحة الرئيس نيكولاس مادورو، ومعه التشافيزية؟
يبرّر ترامب الخطوة العسكرية المحتملة بأن فنزويلا أصبحت معبراً لعصابات المخدّرات العابرة للحدود، ويستحضر بذلك الذرائعيةً القديمة في الخطاب السياسي الأميركي التي لطالما استُخدمت لمنح تدخّلات أميركية في القارة اللاتينية غطاءً أخلاقياً وقانونياً. وفي سياق التصعيد الحالي، رصدت واشنطن 50 مليون دولار مكافأةً مقابل معلومات تؤدّي إلى القبض على مادورو، بوصفه زعيماً لما يسمّى "كارتل الشمس" (؟) الذي يضم أيضاً، وفق الرواية الأميركية الرسمية، مسؤولين رفيعي المستوى من القوات المسلّحة الفنزويلية، ويساند منظّمات مصنفةً أميركياً منظمات إرهابية أجنبية. وعلى غرار المعارضة الفنزويلية، لا يعترف البيت الأبيض بشرعية مادورو، وينظر إلى نتائج الانتخابات التي أوصلته إلى ولاية رئاسية ثالثة في يونيو/ حزيران 2024 باعتبارها مزوّرة، وكذلك الانتخابات التشريعية والإقليمية التي فاز فيها حزبه (الاشتراكي الموحد) في مايو/ أيار الماضي (2025). لم تكتفِ واشنطن بالتصريحات، بل تحرّكت عملياً، فأغرق الجيش الأميركي قارباً في الكاريبي فقتل 11 شخصاً كانوا على متنه، بحجّة أنه يحمل شحنة مخدّرات إلى الولايات المتحدة، ونشر مقاتلاته في بورتوريكو، وحذّر الجيشَ الفنزويلي بعد اقترابه من مدمّرة أميركية... الرسالة واضحة: الولايات المتحدة مستعدّة لتجاوز الضغط الدبلوماسي نحو خطواتٍ ميدانية. حسابات التدخّل الأميركي الداخلية ليست غائبة من المشهد، فالولايات المتحدة تنظر إلى الكاريبي فضاءً لأمنها القومي، فتعيد تعزيز وجود بحري - جوي تذكيراً للخصوم (والحلفاء) بمبدأ الردع في "الفناء الخلفي". ويسعى ترامب إلى تقديم نفسه "الرئيس الحازم" في مواجهة الجريمة المنظّمة، وهو خطابٌ يجد صدىً لدى قاعدته الانتخابية. لكن خارجياً تبقى كل خطوة عسكرية أميركية مشبعة بذاكرة التدخّلات السابقة من خليج الخنازير في كوبا إلى غزو بنما، وهي ذاكرة تجعل أيَّ تحرّك جديد محاطاً بريبة عميقة حتى لدى خصوم مادورو، الذي رفع منسوب خطاب المواجهة إلى الحدّ الأقصى، معلناً استعداد بلاده للتحوّل إلى "الكفاح المسلّح" إذا تعرّضت لهجوم.
قد يغيّر التدخّل العسكري رأس النظام، لكنه لا يضمن القضاء على تجارة المخدّرات ولا استقرار المنطقة، بل قد يترك تداعيات سياسية وإنسانية أعمق. ففي العام 1989 غزا بنما 27 ألف جندي أميركي، إلى جانب قواتٍ من المعارضة المحلية، وانتهت العملية باعتقال مانويل نورييغا ومحاكمته في الولايات المتحدة بتهمة تهريب المخدّرات وغسل الأموال. ورغم سقوط نورييغا، لم تسقط تجارة الكوكايين في المنطقة، إذ أعادت شبكات التهريب تنظيم نفسها عبر كولومبيا والمكسيك، وظلّت الولايات المتحدة تعاني تدفّق المخدّرات. ورغم مرحلة انتقال سياسي بدعم أميركي، خلّف الغزو مئات القتلى المدنيين، وأزمات إنسانية، وعمّق مشاعر العداء لواشنطن. هناك إرثٌ من التدخّلات الأميركية يفسّر حساسية المنطقة لأي تصعيد أميركي، ويستحضر اليوم التدخّل الأميركي رمزاً لانتهاك السيادة أكثر منه نجاحاً ضدّ تجارة المخدّرات. والسؤال الجوهري: هل يسقط مادورو؟
لن تكون الإجابة سهلة، فما زال الرجل يمسك بمفاصل الجيش والأجهزة الأمنية، ويحظى بدعم حلفاء إقليميين ودوليين يمنحونه هوامش للبقاء، وقد يمنحه أيّ تدخّل خارجي فرصةً لتعزيز سرديته عبر حشد الشارع تحت شعار "الدفاع عن السيادة الوطنية"، أكثر ممّا يُضعفه. ويحتاج تحويل أيّ ضربات أميركية محدودة إلى عملية لتغيير النظام تحالفاً واسعاً واستنزافاً طويلاً لا يبدو أن الأميركيين على استعداد لتحمّل كلفته. ما قد يحدث هو إضعاف تدريجي للنظام وعزله أكثر، لكن الضربة القاضية ليست مضمونة، فقد يهزّ ترامب كرسي مادورو ويصعّد التوتر في الكاريبي، لكن الزعيم الفنزويلي لن يسقط سريعاً، ويعلّمنا التاريخُ أن واشنطن تعرف كيف تبدأ المواجهة، لكنّها لا تضمن نهايتها. ليست فنزويلا اليوم بنما الأمس، ولا مادورو هو نورييغا، ولا ينزع التدخّل الخارجي الشرعية من الأنظمة، ولا يمنحها. يستدعي الاستقرار في أميركا اللاتينية، والقضاء على تجارة المخدّرات، مقاربة تعاون إقليمي في أجواء ثقة متبادلة، لا مقاربةً عسكريةً أحاديةَ الجانب.