هل يصل التيغراي إلى قصر الرئاسة في أديس أبابا؟

هل يصل التيغراي إلى قصر الرئاسة في أديس أبابا؟

14 نوفمبر 2021

مقاتلون من جبهة تحرير التيغراي في عاصمة الإقليم ميكيلي (30/6/2021/فرانس برس)

+ الخط -

قبل نحو عام كانت حرب المركز في إثيوبيا على إقليم تيغراي، وتزامنت مع عزم رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، تأسيس حزبه الجديد، الازدهار، في بداياتها. وواجه مقترح الحزب اعتراضات واسعة منذ أول يوم، إذ أبدى كثيرون رفضهم هذه الطريقة المبتدعة في توزيع السلطة، والتي كانت تتجاهل، في نظرهم، الآليات التقليدية والدستور الذي ارتضوه، إلّا أنّ صاحب جائزة نوبل للسلام كان يبدو مصرّاً على خياراته. وحتى ذلك الحين، كان الحديث عن إثيوبيا التي تتداعى يبدو مبالغاً فيه، فالبلاد كانت تُذكر ضمن قصص النجاح الأفريقي الاقتصادي، وأيضاً السياسي، خصوصاً بعد نجاح أبي أحمد في تطبيع العلاقات الشائكة مع جارته إريتريا. وكان منطقه أنّه يسعى إلى إخراج البلاد من إطار المحاصصات الإقليمية والإثنية إلى الأفق الوطني، لكن منتقديه كانوا يرون أنّ الوقت ما زال باكراً لإحداث هذه النقلة، حتى في حالة خلوص النية، فما بالك بوضعٍ يشكك فيه بسيطرة قومية واحدة على الحزب الصاعد، ومن ثم على الدولة؟
إصرار أبي أحمد وتقليله من شأن القادة المحليين استفز كثيرين ممن انخرطوا في تظاهرات وأعمال شغب وعصيان مدني، قوبلت من الجهات الأمنية بعنف مفرط، كان محلّ استنكار واسع من المنظمات الأممية. راح ضحية هذا العنف مئات من الأبرياء والمعارضين الذين كان من أبرزهم المغني من إثنية الأرومو، هشالو هنديسا، وتم اعتقال أعداد كبيرة من المحتجين. وكانت أزمة الشرعية المشكلة التي كانت تواجه أبي أحمد في تعامله مع المعارضين. وللتذكير، لم يأتِ رئيساً للوزراء الإثيوبي عن طريق الاقتراع أو الانتخابات، وإنّما فرضه الظرف السياسي الماثل آنذاك، وجعل كثيرين يرتضونه قائداً مؤقتاً يستطيع الحفاظ على تماسك البلاد التي كانت تعاني من الاضطراب، وصولاً إلى عقد انتخابات حرّة. وفي هذا، يمكن أن يُشبّه وضع أبي أحمد بوضع رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، الذي تم عزله أخيرا، فهو كذلك فرضته الأحداث زعيما، مع أنه بلا تاريخ سياسي.

كان أبي أحمد يرى أنّه لا بد من توجيه ضربة للقضاء على نفوذ "جبهة تحرير شعب التيغراي"، وهو ما بدأه باستهداف قادتها ورموزها منذ أول يوم

ما سبق يعني أنه، وفي الوقت الذي كان القائد الإثيوبي يدلي فيه بدلوه وأفكاره في طريقة الوصول إلى حكومة ديمقراطية قادرة على تمثيل الشعب، كان معارضوه يعتبرون أنّ عليه أن يتنحّى، لأنه كان موجوداً على مقعده بشكل غير شرعي بعد تجاوز أمد الانتخابات. وأبرز المعارضين كان حكومة إقليم التيغراي في شمال البلاد، والتي كانت ترى أن مقترحات أبي أحمد التي تتجاوز ما نص عليه الدستور من اعتماد الفدرالية المؤسسة على المناطقية، والتي تعطي كل إقليم حقه في اعتماد ما يراه مناسباً من قوانين وتشريعات، هي غير مقبولة. تصاعد الخلاف أكثر مع إصرار التيغراي على تنظيم انتخاباتهم البرلمانية في تجاهل للموقف الفيدرالي الذي كان يرى تأجيل كلّ الانتخابات في البلاد بسبب جائحة كورونا.
لم يكن استعداء "جبهة تحرير شعب التيغراي" المسيطرة على الإقليم، والتي كانت تحكم البلاد سابقاً تحت مظلة "الجبهة الديمقراطية الشعبية" خياراً سهلاً، ونظن أنّ أبي أحمد، بحكم خلفيته السياسية والأمنية، كان يدرك أنّ حزب رئيس الوزراء السابق، ميلس زيناوي، ليس مجرد حزب معارض أو حركة مسلحة، بل هو أخطر من ذلك بكثير، بحكم ما يملكه من قوة مادية وخبرة عسكرية، وإن كان يستند إلى حاضنة قليلة العدد من الناحية الإثنية. يكفي أن نعلم أنّ هذه الإثنية كانت تشكل عصب الجيش الإثيوبي. وبهذا لا يمكن مقارنتها بغيرها من المجموعات المسلحة، بما فيها مجموعات "الأمهرة" الموالية لرئيس الوزراء.
على الرغم من ذلك، كان أبي أحمد، يرى أنّه لا بد من توجيه ضربة للقضاء على نفوذ هذه الجبهة، وهو ما بدأه باستهداف قادتها ورموزها منذ أول يوم، قبل أن يدخل مع الإقليم في حربٍ شاملة، بداية بمنع تدفق الأموال الفيدرالية ومحاولة محاصرة السكان وتجويعهم نهاية ببدء حرب فعلية تحت اسم "إنفاذ القانون" أنتجت كثيراً من صور المعاناة والبؤس، وبدأت تشبّه في التقارير الحقوقية بحروب التطهير العرقي.

تحولّت العاصمة الإثيوبية من نموذج للرخاء والاستقرار إلى بلد مهدد بانفراط الأمن لا ينصح بزيارته أو البقاء فيه

الأكيد أنّ حسابات أبي أحمد وتقديراته التي استند إليها لبدء الحرب، وأوهمته أنّ التكلفة لن تكون عالية، وأنّ هذه العملية لن تأخذ وقتاً كثيراً، كانت خاطئة، فبعد فرحه بالانتصار السريع عقب انسحاب مقاتلي التيغراي المفاجئ واحتفال القيادة الإثيوبية بالقضاء التام على المتمرّدين دخلت البلاد مرحلة مظلمة من عدم الاستقرار، بعدما تحول الصراع إلى ما يشبه حرب العصابات، قبل أن يستغل المهاجمون ضعف الروح المعنوية للجيش، لإعادة السيطرة ليس فقط على مساحاتهم السابقة، وإنما على مساحات جديدة، حتى بدأوا يقتربون من العاصمة أديس أبابا نفسها.
لم تصبح العاصمة اليوم مهددة فقط بمقاتلي التيغراي الذين يخوضون معارك جديدة تستهدف قطع الطريق الرابط بين كل من أديس أبابا والميناء الجيبوتي، بل بمقاتلي الأرومو وغيرهم من الجماعات الساخطة على القيادة الإثيوبية. الأحداث تتسارع، وفي وقتٍ بدأت السفارات الغربية حث مواطنيها على مغادرة أديس أبابا كان رئيس الوزراء الإثيوبي يدعو أبناء شعبه، وخصوصا سكان العاصمة، إلى حمل السلاح والاستعداد للدفاع عن أنفسهم وعاصمتهم، ما شكّل أول تشجيع رسمي علني على الحرب الأهلية بين مكونات الشعب المختلفة، أو هكذا اعتبرته مواقع التواصل الاجتماعي التي حذفت المنشورات، باعتبارها دعوة إلى العنف.
هكذا، تحولّت العاصمة الإثيوبية من نموذج للرخاء والاستقرار إلى درجة استضافتها أهم مؤسسة في القارّة، الاتحاد الأفريقي، إلى بلد مهدد بانفراط الأمن لا ينصح بزيارته أو البقاء فيه. هنا يتردّد سؤال عن دور المؤثرات الخارجية في الأحداث، وهو سؤال مهم، وإجابته أنه بالتأكيد كانت هناك تدخلات أجنبية ساهمت في إذكاء الصراع، سواء عبر دعم مقاتلي التيغراي أو بتشجيع القيادة الإثيوبية على المضي في حلولها الأمنية التي لا تفسح مجالًا للحوار، وترفض كلّ أنواع الوساطات.

شعبية أبي أحمد تتناقص بشكل درامي خارج حاضنته الإثنية، ويكتسب أعداء كثيرين يرغبون في إزاحته

إثيوبيا بلد مهم من ناحية المساحة والموقع على الخريطة الأفريقية، وتعتبر ممرّاً لتشابك مصالح دول مؤثرة على الساحتين، الإقليمية والدولية، لكنّني لا أميل إلى التركيز على العامل الخارجي بوصفه عاملاً رئيساً في الأحداث، فالمتسبّب في هذه الورطة هو بالدرجة الأولى طموح أبي أحمد، وحلمه بالانفراد بالسلطة والسيطرة على جميع الأصوات المعارضة، وهو ما جعل شعبيته تتناقص بشكل درامي خارج حاضنته الإثنية، كما جعله يكتسب أعداء كثيرين يرغبون في إزاحته. بالتأكيد، كان يمكن، بقليل من الحكمة، تجنب هذا الصراع الذي يهدّد ليس فقط المستقبل السياسي لأبي أحمد، بل الدولة الإثيوبية بشكل عام، والتي هي مؤهلة للانقسام بسبب التباينات والحساسيات العرقية والإثنية بين مكوناتها.
حصار شعب التيغراي، حوالي خمسة ملايين نسمة، بشكل جعل غالبهم في احتياج للمساعدة الإنسانية العاجلة، وفق تقديرات الأمم المتحدة، هذا الحصار وانغلاق الأفق السياسي لم يتركا لقادة الإقليم خياراً سوى التقدّم بقوة لتغيير المعادلة. وتعلق الناشطة الإثيوبية، شاكرة آدم، على هذه الصورة بقولها إنّ التيغراي آتون إلى قصر أبي أحمد، لكن هذه المرّة ليس من أجل البحث عن تفاوض، بل لاقتلاعه وانتزاع حقوقهم.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق