هل يصبح حزب الله حزباً "عادياً"؟
أعلام حزب الله وصور في حافلات تعود إلى بلدة الخيام جنوبي لبنان (27/1/2025 فرانس برس)
انتهت الأيام الستّون ولم تنسحب إسرائيل من جنوب لبنان، ولا حتى اجتمعت اللجنة الدولية المشرفة على عدم احترامها أصلاً لوقف إطلاق النار، فقرّرت إسرائيل تمديده أسابيعَ، وهذا لم يمنعها من الإغارة مجدّداً على الجنوب والبقاع. أعلن الأمين العام الجديد لحزب الله، نعيم قاسم، في خطاب متلفز، أنه يرفض هذا التمديد. رفيقه النائب محمد رعد بدا يناقضه، عندما أطلق القول المأثور إن الحزب سيردّ على إسرائيل في "التوقيت والزمان المناسبَين". في هذه الأثناء، نائب آخر لحزب الله يعلن أنه إذا لم تحترم إسرائيل التزامها وقف إطلاق النار، فذلك يعني "انهيار الاتفاق"، ومعه انهيار "آليات الضمانات الدولية". ولكن حزب الله يوافق ضمناً على التمديد، ويصدر من بعده بياناً هادئاً، ويكتفي بالقول إن تجاوز الستّين يوماً هذا يُعتَبر "إخلالاً بالاتفاق على الانسحاب (من الجنوب) واعتداءً خطيراً على السيادة اللبنانية".
وعندما جالت "موتوسيكلات" في أحياء بيروت المختلطة، حاملةً رايات الحزب وأهازيجه المذهبية، ودبّ الذعر في قلوب المواطنين الساهرين، وطار صبر كثيرين، وانتشرت في شبكة الإنترنت حملات توبيخ الحزب على "حركته" هذه، أبلغنا حليف الحزب نبيه برّي رفضه التامّ لهذه الحركات، وأعلن عقوبات مسلكية ضدّ من يعود ويرتكبها من جماعته (حركة أمل). لحقته مصادر الحزب، وروَّجت أنها "لا تؤيّد" هذه الحركات، وتصرّف لاحقاً على هذا الأساس، وتراجعَ حضور مسؤوليه الذين نسّقوا لـ"الموتوسيكلات"، ونظّموها. وعندما أعلنت إسرائيل تعرّضها لمُسيَّرة قادمةٍ من لبنان، لم يتبنَّ حزب الله العملية، ونشر بين مصادره أيضاً أنها (العملية) "تشويش على جهود الحزب لإثبات تحوّله بشكل أساس باتجاه العمل السياسي"، وظنون وغموض حول السلاح المتبقّي لدى الحزب، حول نسبته قياساً على ما كان عليه قبل الحرب.
إذا تخلّى حزب الله عن سلاحه: فبماذا سيبرع؟ بأيّ شرعية سوف يتقوَّم؟ بماذا سيتميّز من منافسيه الجدد في قلب الطائفة؟ بأيّ رؤية؟
هذه دلالات متناهية الصِغَر، تبثّ إشارات عن شيء ما يحصل داخل الحزب، قد يحاكي الرغبة المُعبَّر عنها بين كثيرين من المهتمّين بأن على حزب الله أن يتحوّل حزباً "عادياً"، أو "طبيعياً"، مثله مثل بقية الأحزاب اللبنانية، لا يفرّقه عنها إلا أنه يحمل سلاحاً، أي أن على الحزب أن يتخلّى عن سلاحه إذا أراد الانخراط في التركيبة الحاكمة الجديدة المقترحة، خصوصاً أن هذا السلاح فشل في حماية لبنان وبيئة الحزب من الاعتداءات الإسرائيلية المدمّرة. وهذا ليس بالأمر السهل، فحزب الله لم يتقن طوال تحكّمه بلبنان غير حماية سلاحه، وشعار تحرير فلسطين والقدس. مشروعاته ومؤسّساته، اختراقه لمؤسّسات الدولة... كلّها أعمال كان محورها الإبقاء على هذا السلاح الذي سيحرّرننا من إسرائيل. على هذه الشرعية المحورية المطلقة، قام حزب الله. والآن، إذا تخلّى عن سلاحه: فبماذا سيبرع؟ بأيّ شرعية سوف يتقوَّم؟ بماذا سيتميّز من منافسيه الجدد في قلب الطائفة؟ بأيّ رؤية؟
وإسرائيل لا تساعد الحزب على هذا التحوّل، لو كان جارياً. تعلن عن تأخير انسحابها من الجنوب، يصعد الجيش اللبناني إليه، ومعه زحفٌ أهلي، تطلق إسرائيل النار عليه، يسقط قتلى وجرحى، فترتفع معنويات الحزب، أي تضعف فكرة نزع سلاحه، فيكون بيانه حامياً، عائداً إلى المربّع الأول: "إنّنا إذ ننحني أمام عظمة شعب المقاومة، نؤكّد أن معادلة الجيش والشعب والمقاومة، التي تحمي لبنان من غدر الأعداء، ليست حبراً على ورق". ومعلوم أن "المقاومة" يُقصَد بها السلاح، وأن هذه المعادلة "جيش شعب مقاومة"، كانت الركيزة التي قامت عليها هيمنة الحزب على لبنان طوال العقود الماضية. بيئة الحزب الآن هل تساعده في "التحوّل" المطلوب؟... ليس معروفاً تماماً ميلها العام، ولا استفتاءَ في وسطها، أو حرّيةَ رأي يمكنك أن تستشفّ منها شيئاً ما، أو تخفّف من أعباء نزوحها وخساراتها الهائلة، ولكن ثمّة انطباعاً عنها بأنها في معضلة حقيقية. غريزتها الطائفية (وسط كلّ ما يقال عن الشيعة) ذمّاً واستبعاداً، تبقيها في حضن الحزب، "وفيّةً" له، ولشهدائه. وقد لا تحتاج إليه في عملية إعادة بناء ما خسرته، إذا لم يذعن الحزب لترك سلاحه، ويتحوّل "طبيعياً". وهي، من جهة أخرى، تعلم في دواخلها بأن هذا السلاح لم يحقّق ولا شعاراً من شعارات الحزب، التي أنزلت عليها مصيبة إعادة احتلال أراضٍ سبق أن حرّرها، ولسانها العفوي، الذي نشأت عليه منذ عقود، ليس فيه غير عبارات التخوين والانتصار.
سلاح حزب الله فشل في حماية لبنان وبيئة الحزب من إسرائيل، ولم يتقن غير حماية سلاحه وشعار تحرير فلسطين
وقد يكون ثمّة تناظر بين معضلة هذه البيئة ومعضلة الحكم الجديد الموعود، الذي لم يتثبت حتى الآن. معروف أن تأخّر ثبوته يعود إلى معضلة "الشيعة"، أيّ الحزب. يُطلَب منه ضمناً، أو في المدى القصير، أو ضمن ورقة طريق واضحة، أن ينزع سلاحه، أي أن الحكم الجديد يريد أن يكون الحزب مثله مثل بقيّة الأحزاب الطائفية الأخرى، ذات الزعامات الطائفية الفاسدة، فتكون معادلته المتخيَّلة، إقصاء الحزب والإبقاء على "المكوّنات"، أي زعماء الطوائف الذين ركبوا موجته، واغتنوا وترسّخوا، مع بعض التطعيم من "شخصيات تكنوقراطية" و"ذات مهارات".
يعني بشيء من الصراحة، نزيل حزباً كان حاكماً من المشهد، ونبقي من رافقه في صعوده وازدهاره، ومن بين هؤلاء من كانوا من صنعه، من أوّلهم الى آخرهم. الآن هؤلاء أحرار يسرحون ويمرحون، يشترطون أن تكون لهم حقيبة كذا وكيت، يبتهجون بالموقف الأميركي القائل إن "لا مشاركة لحزب الله في الحكومة". يذكّر هذا المشهد بحال الحركة الوطنية اللبنانية بعد هزيمتها إثر الغزو الإسرائيلي لبنان عام 1982، قادة هذه الحركة عملوا استداراتهم، ونظّروا لها أذكى التنظير، وصاغوا من أجل الاستدارات "المعادلات" المُقنِعة لقاعدة لم تفقد "إيمانها"، قاعدة بقيت تفكّر في أن طريق النضال ما زال سارياً بمُجرَّد أننا نتكلّم عنه، وتُبقي على العادات التي رافقته، على الفِكَر والسلوكات، فيما القادة يجلسون في مقاعد "أصحاب المجد القديم"، يستمدّون منه دوراً، ولو صغيراً في المشهد، لكي تبقى صورتهم حيّةً أمام من تبقّى من جماهير. ولا يتغيّر شيء. لا عقلية القادة، الذين يلعبون بإيمانات التابعين لهم، ولا قاعدتهم الجماهيرية التي بقيت "وفيّةً" لهذه الإيمانات.