Skip to main content
هل يسقط جاستن ترودو؟
مهنا الحبيل

تشير استطلاعات الرأي للانتخابات الكندية، المقرّرة في 20 سبتمبر/ أيلول الحالي، إلى تراجع فرص الحزب الليبرالي، وتقدّم المحافظين، وهي استطلاعاتٌ لا يُمكن الجزم بتجسيدها نسب الفوز الأخيرة التي سيتقاسمها الحزبان الكبيران، ويليهما الحزب الديمقراطي الجديد وحزب الكتلة الكيبكية المتطرّف الذي يحكم مقاطعة كيبيك، والرقم الأهم هو دلائل خسارة رئيس الحكومة الذي اعتُبر حليفاً للأقليات ومنها الأقلية المسلمة، جاستن ترودو.
وحديثنا هنا ليس تحليلاً استباقيا لأرقام الانتخابات، بقدر ما هو قراءة فكرية خارج الصندوق، تسعى إلى فهم المعطيات الأكثر أهمية لمستقبل الحياة السياسية، وواقع توجهاتها على الأرض مع المجتمع الكندي التعدّدي، وكيف نفهم تأثير القوة العميقة للحزبين الرئيسيين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، للكنديين الأوائل ومن التحق بهم في العقود الأخيرة.
يحتفظ الناس بالفكرة العاطفية عن جاستن ترودو في شعبيته في حاضر العالم الإسلامي، وفي حرصه على تسجيل مواقف التهنئة والتضامن في المناسبات المختلفة، وفي مراعاة خواطر المسلمين الكنديين، وفي تسهيل إجراءات اللجوء التي أفاد منها كثيرون من الباحثين عن وطن ومستقرّ في الأرض الجديدة، حيث تشهد كندا تدفقاً واسعا من الجنوب إلى شمال العالم. وهذه الدلائل في حياة ترودو متجذرة من شخصية والده، الزعيم الكندي البارز، بيير ترودو وهو شخصية وطنية تاريخية، ساهمت في تحرير وثيقة الحريات، فهي حقيقة مشهودة، لكنها ليست كل القصة، وإن كان المسلمون الكنديون قلقين اليوم من فوز المحافظين، على الرغم من أن النتائج النهائية قد تسفر عن تشكيل حكومة أقلياتٍ متعدّدة، تعجز عن الصمود طويلاً.

مشروع الإسلاموفوبيا وفكرها متجذّران في هيكل المحافظين أكثر مما يظهر في الحزب الليبرالي

ذلك كله لا يُلغي هذا الاستشراف المتزايد لفقدان ترودو مساحة كبيرة من جاذبيته، وأنها قد تكون مقدمةً لطي مرحلته السياسية الحالية، وخصوصا تأثير حجم خطابيته مقابل مشاريعه، وبالذات مع قضايا السكان الأصليين التي لا تزال تنزف وتُقابل كل مرة بالوعود المسرحية... 
ما الذي سيفقده المسلمون الكنديون في رحيله؟ هذا غير واضح اليوم، بسبب عدم القدرة على الحكم على سياسة المحافظين. لكن المؤكد أن مشروع الإسلاموفوبيا وفكرها متجذّران في هيكل الحزب أكثر مما يظهر في الحزب الليبرالي، وقد نظّم الأخير مؤتمراً وطنياً لمواجهة الإسلاموفوبيا أخيرا، يفصله يوم واحد من مؤتمر تضامني مع اللاسامية ومطالب الكنديين اليهود، بتفعيل قرارات تعزيزها. قرأتُ عنه نقداً متعدداً للجهات الإسلامية، وشكوكاً منذ اللحظة الأولى في جدوى فعالية هذا المؤتمر لحماية المسلمين الكنديين في سلامتهم الشخصية، وحقوقهم المدنية، وخصوصا منظومة الطفل والأسرة، وكان أبرز من تقدّم بقائمة توصيات، وأعلن أن الحكومة الكندية ملزمة بمتابعة هذه التوصيات، وشكّك في جدّيتها هو المجلس الوطني للمسلمين الكنديين. وهو تجمع شبابي مميز، حضرتُ نشاطاً لهم من قبل، وتعرّفت على قيادته، يحمل لغة فكر حقوقي فارقة في خريطة العمل الإسلامي في كندا، كما أن تشكله منظمة مجتمع مدني أكثر من أنه مركز إسلامي ساعده على هذه الحيوية.
المهم هنا اعتقاد الجميع بعدم جدّية الحكومة الكندية، والفرق بين وعود رئيس الحكومة لليهود الكنديين والمسلمين الكنديين يؤكد هذا المعنى المهم في واقع حياة المسلمين في كندا وضعف ظهيرهم الحقوقي، على الرغم من حوادث الإرهاب التي تعرّضوا لها، ولعل هذا الشعور ساعد في انتقال الموقف النفسي من بقية الكنديين، وتحفّظهم على سلوك ترودو القائم على الخطابية والعاطفة، من دون جدوى عملية، فانتقل هذا الشعور إلى مسلمي كندا.

أوجد البعد الحقوقي في المعيشة وفي الضمان الاجتماعي وفي إيرادات الضريبة القاسية، لوبيات غير معلنة

الجانب الآخر من المشكلة أن مشاريع لوبيات المسلمين السياسية في كندا لا تقوم على صناعة مجتمع متماسك في منظومته الحقوقية والمطلبية، تنطلق من أساس فكري يخوض فيها ممثلو المجتمع حملة حقوقية لديمغرافيا ثابتة، وإنما غالب التعاطي يعتمد على المساحة التي يمنحها الحزب الليبرالي أو المحافظ، مع اللوبي الذي يمثل المسلمين لحصد كوتا تصويت من تجمّعات متفرّقة ومتصارعة أحياناً بينها، مقابل حفنة من الخطابية وتطييب الخواطر من الحزبين. وقد تنجح بعض هذه التجمعات في كسر القاعدة، لكنها بالجملة تعود إلى التكييف ذاته، الخاضع للقوة المهيمنة. كما أن لكلا الحزبين مصالح اقتصادية كبرى، وعبر ما تُسمّى الدولة العميقة، يفرض الفكر الرأسمالي خططه الاجتماعية والسياسية المدنية، ولا يوجد فرق يذكر بين الحزبين في علاقتهما بتل أبيب والتولّه لسياساتها. وقد أوجد هذا البعد الحقوقي في المعيشة وفي الضمان الاجتماعي وفي إيرادات الضريبة القاسية، وفي تأخر المواعيد الطبية التخصصية الذي يصل إلى سنوات، وفي الصراع على فرص العمل، لوبيات غير معلنة، تشمل منظومات الطب المهنية وغيرها، تمثل تلك الصورة من التوحش الرأسمالي الذي لا يلاحظه من هو خارج كندا. وعلى الرغم من أن هذه اللوبيات تعتمد على أولوية المواطن الكندي من القومية الغربية، إلا أنها لا تُغطّي احتياجات كل الشباب والأسر الضعيفة والمتوسطة داخل هذه القومية، والتي يطحنها هذا التوحش، كما يطحن الأُسر الكندية المهاجرة الجديدة، لكنه، في الوقت نفسه، يستقطب الصوت الكندي الغربي الغاضب، من استخدام كوتات المهاجرين الجدد للتصويت للحزب الليبرالي، مقابل تردّي وضعه الاقتصادي أو تراجعه.
في الوقت ذاته، هناك حالة بائسة من معاناة المهاجرين الجدد، قد تتسبب في انهيارهم النفسي، أو انتحارهم، أو إدمان المخدّرات، أو البقاء في حالة فقر شديد، ما لم يُسخّر جسده ساعات طوالا لتأمين السكن ولقمة العيش الباهظة. وهذا لا يعني أن هذه الحالة تشمل الجميع، أو أنه لا يوجد فرص نجاح أو استقرار، ولا تنفي وجود منظومة حقوقٍ ومساهمةٍ تأمين اجتماعي حكومي، فضلاً عن الحقوق السياسية والمدنية. غير أن الرأسمالية الكندية طوّقت العدالة الاجتماعية، فاشتد ضيقها على الناس، فيسعون إلى تبديل حزبٍ بحزبٍ آخر، على الرغم من أن المركز الرأسمالي الذي يزداد سوءًا هو مرجع الجميع، ولكن لحظة الغضب الآني تلعب دوراً في إسقاط السياسي، حين يُكذّب الواقع البيان الخطابي.