هل يحتاج الأمنيون في تونس قانوناً يحميهم؟

هل يحتاج الأمنيون في تونس قانوناً يحميهم؟

12 أكتوبر 2020

مناهضون لمشروع قانون "حماية الأمنيين" أمام البرلمان في تونس العاصمة (8/10/2020/الأناضول)

+ الخط -

على وقع هتافات المحتجّين في تونس على مشروع قانون "حماية الأمنيين وأعوان الديوانة" (الجمارك)، أجّل مجلس نواب الشعب مواصلة النظر في المشروع إلى جلساتٍ مقبلة. والمحتجون من فئات وأوساط متعددة، فهم نشطاء حقوقيون، وشبان ينتمون إلى خلفيات سياسية يسارية راديكالية، فضلا عن منظمات وطنية معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب ودعم العدالة الانتقالية. ويعيد مشروع القانون النظر في نسخ قدّمت سابقا، وحملت عناوين متعدّدة، من قبيل "زجر الإعتداءات على الأمنيين". ويعتبره المتظاهرون ضده قبالة البرلمان قانونا مشينا يعيد تونس إلى دولة البوليس، ويبدّد الشيء الوحيد الذي ربحه التونسيون من ثورتهم: الحرية.
أسباب هذا الغضب مبرّرة، لعل أهمها الذاكرة الموجوعة من انتهاكات جهازٍ ظل عقودا طويلة رأس الحربة في قبضة نظامٍ كان يستخدمه للبطش بمن عارضه. كانت كل جرائم النظام قد ارتكبت عبر هذا الجهاز، حتى قامت الثورة. ومع ذلك، ظل الأمنيون عدوا للمتظاهرين، خصوما لدودين لهم، حتى بعد هروب بن علي بأيام قليلة. استطاع الجيش بكثير من الذكاء والوطنية أن ينأى بنفسه، في حين تورّط جهاز الأمن في كل التجاوزات والإنتهاكات الخطيرة التي جرت خلال أحداث الثورة. ولا زال ملف شهداء الثورة وجرحاها عالقا في رقاب هؤلاء. وتحصّن مئاتٌ من "الجلادين" المطلوبين في قضايا العدالة الانتقالية بنقاباتهم، ورفضوا المثول أمام القضاء، باستثناء حالاتٍ نادرة، بل إن بعضهم لم يتورّع عن ممارسة بلطجة خرقاء، حين حاصروا مرّات عديدة مقرّات المحاكم.

المتظاهرون ضد قانون "حماية الأمنيين وأعوان الديوانة" قبالة البرلمان عدُّوه قانونا يعيد تونس إلى دولة البوليس، ويبدّد ما ربحه التونسيون من ثورتهم، وهي الحرية

كانت الثورة، منذ أيامها الأولى، قد منعت، لنبلها ورقيّها، أي عمليات تشفٍّ أو انتقامٍ من الأمنيين. وكان حدوث ذلك ممكنا في لحظة انفلاتٍ شامل، عسّرت الرقابة والتحكّم في ردود أفعال الجموع الهائجة. كان الحسّ المدني والرغبة في بناء مستقبل مشترك يقوم على دولة القانون قد منعا الإندفاع تجاه هذا المسلك، خصوصا وأن مطلب العدالة الإنتقالية قد برز مبكّرا، فلجم كل تلك النزوات والرغبات. بدت مشاريع إصلاح جهاز القوات الحاملة للسلاح مطلبا ملحّا يرافق عادةً مسار العدالة الانتقالية ويلازمه. لذا عبّرت منظمات دولية مختصة عن رغبتها في تقديم المساعدة والخبرة والمشورة، من أجل تنفيذ هذه المهمة، غير أن شيئا من ذلك لم يتحقق، فقد حدثت تحولات سياسية لاحقة، عزّزت حالة الإفلات من العقاب. وكان للنقابات الأمنية دور كبير في حالة "الصد" تلك. تحولت مهمة النقابات من الدفاع عن حقوق الأمنيين الإجتماعية إلى الدفاع عن تجاوزاتهم الخطيرة، فضلا عن حشر نفسها في صراعاتٍ سياسيةٍ، لا تعنيها أصلا كما ينص الدستور.
يحتاج قطاع الأمن إلى إصلاحاتٍ ضروريةٍ مطلوبة، لا بد أن تأخذ بالاعتبار جملة من المعايير، لعل أهمها أن يكون تحت سقف الدستور، خصوصا في غياب المحكمة الدستورية. والحال أن بعض فصول القوانين المعروضة أمام مجلس النواب المقترحة قد يكون فيها تجاوز خطير للدستور ذاته الذي ينص على المساواة بين مواطنيه وتجريم التعذيب وعدم سقوطه بالتقادم.. إلخ. كما يقتضي الإصلاح إعادة النظر في مناهج التكوين الذي يتلقاه الأمنيون في مدارس الشرطة ومؤسسات التعليم الخاصة، حتى تخلق ذائقة أمنية جديدة، هي من وحي الانتقال الديموقراطي، منحازة إلى قيم الحرية والمواطنة، ومناهضة لانتهاكات حقوق الإنسان. ولذا، الرهان الأكبر هو تنشئة هذا الجهاز على عقيدة الأمن الجمهوري.
لقد استفاد الأمنيون أكثر من غيرهم من الثورة ومكاسب الإنتقال الديموقراطي: ترقيات، امتيازات مادية أعادت لهم الاعتبار في سلم الأجور، حقوق اجتماعية ورعاية صحية هامة، غير أن انخراطهم في استحقاقات الإنتقال الديموقراطي ما يزال مرتبكا. الدفاع عنهم مهمة نبيلة، ملقاة على عاتق النخب التونسية جميعا، ولكن ذلك يحتاج انخراطا في مسار الإصلاح المشار إليه، وليس بإضافة قانون جديد، لا أعتقد أنه يحمي الأمنيين.
وفي المدوّنة القانونية الحالية ضمانات كافية وزيادة، لحماية كل موظفٍ عمومي يؤدي واجبه، مدنيا كان أو أمنيا، غير أن مراجعة بعض الإجراءات الخاصة بالتدخل الأمني، وتحديد المسؤوليات، مسألة عاجلة. معارضة مشاريع القوانين تلك أمر مشروع، لكن ذلك يقتضي رصانة وهدوءا يبنيان الثقة مع جهازٍ لا تحتاجه البلاد فحسب، بل هو شريكٌ في تجربة بناء المشترك الوطني في تونس في هذه المرحلة العسيرة. رفع بعضهم شعارات مهينة ومستفزة، غير أن الأمنيين الذين حضروا لتأمين تلك المظاهرة تحلوا بمظاهر كثيرة من الإنضباط والتحمل، وهذا سلوك يستحق الثناء. مثل تلك الشعارات المرفوعة في وجوه رجال الشرطة تفتح باب جهنم على المتظاهرين في بعض دول شقيقة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.