هل يحتاج الأمنيون في تونس حماية؟

هل يحتاج الأمنيون في تونس حماية؟

20 أكتوبر 2020

مظاهرة في تونس العاصمة ضد مشروع قانون حماية الأمنيين (8/10/2020/Getty)

+ الخط -

عاد الجدل في تونس إلى دوائر صنع القرار والشارع السياسي على خلفية طرح مشروع قانون "حماية قوات الأمن والديوانة" إلى النقاش أمام مجلس النواب. وليست هذه المرة الأولى التي يثير فيها هذا القانون نزاعاً سياسياً وحقوقياً، فمنذ سنة 2015 عندما قُدِّم القانون، بنسخته الأولى تحت اسم "قانون زجر الاعتداءات ضد القوات الحاملة للسلاح"، ثم سنة 2017، فشل مؤيدو القانون في تمريره ومنحه صفة القانون النافذ، نظراً إلى فصول فيه تكرّس إفلاتاً من العقاب، في حالة التجاوزات الأمنية المتكرّرة، كما تؤكّد المنظمات الحقوقية ونشطاء المجتمع المدني. وعلى الرغم من أن النسخة الجديدة من القانون عُدِّلَت لتنال ثقة النواب، إلا أن ما رافقها من حملة احتجاجية لناشطين أمام المجلس أدّت إلى تأجيل النظر فيها، بطلب من الحكومة التي رأت الوضع غير مناسب لمناقشة القانون، أو ربما من أجل إقناع ما يكفي من النواب من أجل تمريره في حالة عرضه في المرحلة المقبلة.
وتظل العلاقة بين الأمنيين والمواطنين محور النقاش في أثناء الجدل بشأن وضعية القطاع الأمني في تونس ما بعد الثورة، حيث كان التحوّل المركزي الذي شهدته البلاد بعد سقوط نظام الاستبداد يقوم أساساً على فكرة إلغاء الدولة البوليسية التي كانت سائدة زمن حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وتحويل قوات الأمن من وضعية الحامي للنظام إلى أمن جمهوري، يخدم المواطن ويطيع الدستور.
ككل حالة انتقالية، كان من الصعب أن تستوعب بعض الجهات الأمنية النافذة طبيعة التحوّل السياسي الحاصل في المجتمع والدولة. ومن هنا كان سعيها المحموم إلى استعادة ما تعتبره نفوذاً تقليدياً آل إليها بحكم الممارسة طوال عقود من حكم الدولة البوليسية، وإذا كانت فكرة ظهور نقابات أمنية تدافع عن مصالح منظوريها في كل القطاعات الأمنية قد وجدت لها سبيلاً، لتصبح واقعاً لا يمكن إنكاره (وهي وضعية ليس لها نظير في أي دولة عربية أخرى)، فإن ممارسات هذه النقابات الأمنية قد جاوزت الحد في أحيان كثيرة، وتحوّلت لتنخرط في الشأن السياسي الضيق، بعيداً عن مجال نشاطها الفعلي. ومما زاد في سوء العلاقة بين الجمهور والقطاع الأمني، التجاوزات الحاصلة في حق المواطنين، ما أثار، في أحيان كثيرة، ردود فعل منتقدة للسلوك الأمني على صفحات التواصل الاجتماعي، وهو ما تعتبره القوى الأمنية تشويهاً يمسّ بمعنوياتها، ويؤثر بأداء منتسبيها.

خصوصية ما تطالب به القوات الأمنية يتعلق أساساً بما ارتبط في الأذهان من انتهاكاتٍ أمنيةٍ كانت تحصل قبل الثورة بشكل منظم، وبرعاية رسمية

والحقيقة أن القوى الأمنية لا يمكنها أن تكون في منأى عن النقد، وعن الجدل الاجتماعي والسياسي الذي تشهده البلاد، فلا أحد فوق النقد، بما فيه أعلى هرم السلطة، وكل المواقع السلطوية الأخرى النافذة في الدولة. ومن هنا، كان غريباً أن يطالب الأمنيون بحماية خاصة، دوناً عن غيرهم من الناس، سواء أكانوا المنتسبين إلى الدولة، أو ضمن دائرة حقوق المواطنة، حيث المفترض أن يتساوى الجميع أمام القانون، على الرغم من أن قوات الأمن عرضة لعمليات إرهابية، ولكن مشروع القانون الحالي لن يحمي رجال الأمن من إرهابي يريد أن يقتل نفسه وغيره. والمجرم لا يفكر في عواقب جريمته، ولا يفكر أصلاً في القانون. وإذا أضفنا إلى هذا وجود قانون يكافح الإرهاب، يصبح من العبث تخصيص قانون لحماية الأمنيين دون غيرهم من القطاعات.
والحقيقة أن تونس شهدت، بعد الثورة، طفرة في النزعات القطاعية والفئوية، حيث أصبحت النقابات الوظيفية تتنازع للاستئثار بأكبر قدر ممكن من الامتيازات، على حساب الامتثال للقانون العام الذي ينظم نشاطها ويحدّد حقوقها وواجباتها، وهذا أمر يتجاوز القطاع الأمني إلى قطاعات الوظيفة العمومية التي تنضوي تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل، مروراً بقطاع المحاماة وغيره من قطاعاتٍ، تحاول جميعها إيجاد وضعياتٍ قانونيةٍ خاصة بها، غير أن خصوصية ما تطالب به القوات الأمنية يتعلق أساساً بما ارتبط في الأذهان من انتهاكاتٍ أمنيةٍ، كانت تحصل قبل الثورة بشكل منظم، وبرعاية رسمية، ثم التجاوزات التي حصلت بعد الثورة، الأمر الذي جعل منظمات حقوقية، مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين، تتحفظ على القانون الجديد. ومع تزايد التوتر بين جمهور المحتجين على القانون أمام مجلس النواب والنقابات الأمنية، كان طلب رئاسة الحكومة بتأجيل النظر في مشروع القانون، محاولة لسحب فتيل الأزمة مؤقتاً، ولكن الجدل سيعود عند إعادة طرحه.
تثير محاولة بناء نظام قانوني يمنح الأجهزة البوليسية صلاحيات أوسع، ويسعى إلى التضييق علناً على هامش الحريات، مخاوف مشروعة من إطلالة شبح الدولة البوليسية بكل مزالقها، وما يقترن بها من ممارساتٍ قد تحيل إلى زمن الطغيان. وربما كان الضامن الوحيد ضد كل محاولة للارتداد إلى الاستبداد هو وعي المواطن التونسي أولاً، ثم الانتشار الواسع للمنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية التي تقوم بجهد واضح، لكشف كل انتهاكٍ ممكن لمنظومة الحقوق والحريات، من دون أن يعني هذا استبعاد إمكانية حصول تجاوزات وانتهاكات لحقوق المواطن، مهما كانت خلفيتها، سياسية أو اجتماعية.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.