هل مواجهة إسرائيل ممكنة؟

(بابلو بيكاسو)
هذا السؤال فارق بين عهدَين في مصر، عهدي جمال عبد الناصر ومن جاؤوا بعده. لا لا.. (تعالى)، لست ناصرياً، ولا أحد ممّن استدعوا عبد الناصر في الشهور الماضية رغماً عنهم، هذا تاريخ، لا علاقة له بشخوص من صنعوه، كانت إجابة عبد الناصر أن المواجهة ممكنة وواجبة، ولا سبيل إلى تفاديها، كما أنه لا سبيل إلى أيّ تنميةٍ أو نهوضٍ حقيقيٍّ من دون إزاحة آخر رؤوس الاستعمار في بلادنا، إسرائيل. هكذا أجاب عبد الناصر، ولم تهتز إجابته بعد يونيو/ حزيران 1967، بل ازدادت رسوخاً، بدا ذلك ميدانياً في استئناف العمليات في رأس العش (يوليو/ تمّوز 1967)، كما بدا سياسياً في قمّة اللاءات الثلاث في الخرطوم (أغسطس/ آب 1967) لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل. أجابت الهزيمة بأن المواجهة ممكنة، فيما أجاب النصر في أكتوبر 1973 بأنها غير ممكنة، وبأن أكتوبر "آخر المعارك"، وهي العبارة التي تحوّلت مع حسني مبارك إلى "حرب! مش هنحارب"، وهكذا إلى يومنا.
نحن هنا أمام خطابَين، طريقَين، شعبَين، كما كتب عبد الرحمن الأبنودي في "الأحزان العادية" "إحنا شعبين شعبين شعبين/شوف الأول فين والتاني فين/ وآدي الخطّ ما بين الاتنين بيفوت/ أنتوا بعتوا الأرض بفاسها.. بناسها/ في ميدان الدنيا فكيتوا لباسها/ بانت وش وضهر/ بطن وصدر/ والريحة سبقت طلعة أنفاسها/ واحنا ولاد الكلب الشعب/ إحنا بتوع "الأجمل" وطريقه الصعب/ والضرب ببوز الجزمة وبسنّ الكعب/ والموت في الحرب". هكذا نموت من أجل الأجمل وطريقه الصعب، وهكذا يعيش أحرص الناس على "أيّ حياة"، لأن إجابتهم كانت وما زالت أن المواجهة مستحيلة.
ليس المعوّل عليه هنا من انتصر ومن انهزم، لأن النصر الذي ننتظره (والذي سيأتي) هو التحرير، كما أن انتصارات حركات المقاومة في مواجهة دول احتلال هي "دائماً" في قدرتها على الوجود، وعلى الصمود، وعلى الاستمرار، وهذا ليس جديداً، بل هو في حكم البديهي، كما تُخبرنا تواريخ حركات المقاومة في العصر الحديث، في حرب فيتنام في مواجهة الولايات المتحدة، وفي الثورة الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وفي التحرير الإريتري في مواجهة إثيوبيا، والأمثلة لا تنتهي. ولذلك، لا تبدأ إجابة سؤال التكلفة من عنده، إنما من السؤال الأصلي: هل مواجهة إسرائيل ممكنة؟ هل مواجهة جيش تدعمه الولايات المتحدة ممكنة؟ هل من طائل من وراء ذلك كلّه؟ أم أن الهزيمة حتمية، والاستقلال مستحيل، واختيار المقاومة والمواجهة وتحرير الأرض من النهر إلى البحر وطريق القدس الذي يمرّ من حوارينا في القاهرة، ذلك كلّه عنترية وحنجورية ورومانسية، وغيرها من خربشات دول وممالك وإمارات "الاستسلام الواقعي".
لقد أجاب يوم 7 أكتوبر (2023)، وكانت الإجابة واضحة كالإهانة، كرصاصةٍ في منتصف جبهة، نعم المواجهة ممكنة، والمسافة ليست بعيدة، كما تدّعون، "المسافة صفر"، وبأسلحة شبه بدائية، وجيش بلا ظهير، وبلا داعم، وكلّ من يحيطونه خصومه، ليس لأنه مقاوم، "لا سمح الله"، بل لأنه حمساوي وإخواني وإسلامي وإيراني، ومن ثمّ فإسرائيل أفضل وأضمن. لم تكن حرب إبادة المدنيين طوال 15 شهراً سوى محاولة بائسة لمحو هذه الإجابة من أذهان كلّ من رأوها، فالإجابة كفيلة بإحياء السؤال الميت، وإعادة إجابته، هكذا اشتغلت جبهات العدو، في جيش الاحتلال من ناحية، وفي منصّات إعلام أنظمة "الاستسلام الواقعي" من الناحية نفسها، وانطلقت النيران تستهدف "الروح العربية"، في أجساد الغزّية، وفي قلوب داعميهم وعقولهم، من المحيط إلى الخليج، كلّ طلقة من بندقية أو من شاشة، كانت تغرس في أرواحنا من جديد: المواجهة مستحيلة، المقاوم مهزوم، المقاوم أبو الهزائم، المقاوم قومي حنجوري، المقاوم إسلامي إرهابي، وحين فشلت المحاولات كلّها، جاء سؤال التكلفة، نعم التكلفة باهظة وموجعة ومريرة، ليس لأن غزّة تقاوم، ولكن لأن غزّة وحدها، ولأن الأنظمة العربية "القادرة" متفرّجون أو داعمون للعدو، من هنا يمكننا أن نفهم من المسؤول عن رفع التكلفة، وأن نجيب.