هل قرّرتم التخلّي عن فلسطين؟

01 يونيو 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

تتحرك إسرائيل بدون أقنعة، فما كانت تخفيه من قبل لاعتبارات تكتيكية صارت تعلنه جملةً وتفصيلاً. هذا الغرور والعناد يعكسان ثقة كبيرة في النفس إلى درجة جعلت قادتها يتخلّون عن الخطاب الدبلوماسي، وأصبحوا يعتمدون على لغةٍ تحمل الكثير من التطاول والاستعلاء والعنف. وهو خطابٌ يوجهونه إلى الجميع، بمن فيهم أقرب حلفائهم، إذا ما اختلف هؤلاء معهم في مسائل يعتبرونها دقيقة واستراتيجية، حتى لو كان هؤلاء الحلفاء في مستوى انكلترا، التي دعمتهم ووفّرت لهم الغطاء الدولي الذي مكّنهم من إقامة دولتهم داخل فلسطين التاريخية، فعندما تجاوز وزير الخارجية البريطاني ما اعتبرته حكومة نتنياهو خطّاً أحمر، في بيان مشترك مع فرنسا وكندا، خاطبه وزير خارجيتها بالقول "عهد الانتداب البريطاني قد انتهى"، أي، بلغة أخرى، انتهت سلطتكم، ولم تعُد لنا حاجة بكم. وبالعنجهية نفسها، خاطبت تل أبيب باريس عندما هدّدت الأخيرة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. بل تجاوز الكيان الصهيوني كل الحدود، وأصبح يهدّد بتسليط عقوباتٍ على الحكومات الغربية التي تفكر في إصدار عقوباتٍ ضده، ولم تكتفِ تل ابيب بذلك، بل استهدفت قواتها وفداً رسمياً من الاتحاد الأوروبي زار مدينة جنين، وكادت تصيب بعض أعضائه، ولم تقدم أي اعتذار لهم ولا للاتحاد.

لم تقف العنجهية الصهيونية عند هذا الحد، إذ أصرّت حكومة نتنياهو على الاستمرار في تجويع الغزّيين وحرمانهم من الطعام والماء، إلى أن شارفوا على الموت، عندها قالوا "لأسباب دبلوماسية وليست إنسانية لن نتركهم يموتون، لكنّنا لن نسمح للمنظمّات المختصّة المعروفة دولياً بتوزيع المساعدات"، وأوكلوا المهمّة إلى شركة أميركية تنجز ذلك بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي. ورغم اعتراض الأمين العام للأمم المتحدة، وإجماع كل المنظمّات والمؤسّسات الدولية على اعتبار ذلك أنّه جريمة موصوفة ضدّ الإنسانية، كما ورد في القانون الدولي الإنساني، فقد أصرّت على تنفيذ الخطّة، وحصل ما حصل، إذ اندفع عشرات آلاف من الجوعى إلى مكانٍ ضيّق غير مهيأ لمثل هذا الحشد الضخم من الناس، أُطلق النار لتفريق المدنيين، وفشلت العملية. فعل الإسرائيليون ذلك عمداً؛ لأنهم أرادوا أن يُظهروا الفلسطينيين في صورةٍ تمسّ من كرامتهم الإنسانية، وهم يتدافعون من أجل لقمة صغيرة، كما أرادوا مقايضتهم مقابلَ تلك اللقمة على التخلّي عن المقاومة، والقبول بما يسمّونها "الهجرة الطوعية". لؤم ورغبة مريضة في التنكيل بشعب صامد ومُسالم.

على نحوٍ موازٍ واستفزازي، هجم آلاف المستوطنين على المسجد الأقصى بقيادة أحد مجرمي الحرب، ورقصوا بهستيريا في ساحته، وحرضهم بن غفير الذي علّمهم الإجرام على التمادي في عدوانهم، فهدّدوا بقتل الفلسطينيين، وهاجمت قطعانهم محلات التجار، فهشّموها وسرقوا الأموال والذهب، وعاثوا فيها فساداً. وزادهم طغياناً ظهور نتنياهو داخل نفق جرى بناؤه تحت المسجد الأقصى بهدف تقويضه وإقامة ما يسمّونه "هيكل سليمان". وهي رسالة صريحة أنّهم ذاهبون إلى الآخِر في مخطّطاتهم الاستعمارية مهما كان الثمن. لهذا؛ حرصت حكومتهم على إطالة الحرب، ليس من أجل تحقيق انتصار عسكري على "حماس" فحسب، وإنّما بغرض استغلال اللحظة الراهنة من أجل ابتلاع بقيّة فلسطين والسيطرة على ما حولها.

في هذه اللحظات المأساوية، يستمر عجز العالمَين العربي والإسلامي؛ إذ يتابعان حالة الانكسار من دون القيام برد فعل قد يغيّر مجرى الأحداث، وهما فاقدان للقيادة والهوية والخطة. ورغم ما يُقال إن نتنياهو أصبح معزولاً شعبياً، لا تزال الحكومات الغربية مكتفية بإصدار بياناتٍ، وتوجيه تهديداتٍ لا تستجيب لها إسرائيل، وقد تتراجع عنها في أي لحظة، مثلما فعلت ألمانيا التي أعادت التزامها بالدفاع عن أمن إسرائيل، هكذا يتواصل شلال الدم الفلسطيني ولا يتوقّف، بالرغم من حجم التحرّكات الشعبية الغاضبة التي قامت بها المجتمعات المدنية الغربية. بكل وضوح، تخشى هذه الحكومات أن تتجرّأ وتقول لهذه الطغمة الإسرائيلية المتسلطة: كفى عبثاً وجنوناً، إنه الوجه القبيح لهذا الزمن العبري.