هل عادت أميركا متأخرة إلى النظام العالمي؟

هل عادت أميركا متأخرة إلى النظام العالمي؟

12 مارس 2021
+ الخط -

استبدل الرئيس الأميركي جو بايدن، شعار الرئيس السابق دونالد ترامب، "أميركا أولاً" الاستفزازي، بشعارٍ جديدٍ مقبولٍ من الحلفاء، وأكثر ليونةً في التعاطي مع الخصوم في القضايا الشائكة، على الرغم من لغة التهديد والوعيد التي يستخدمها في خطاباته، سيما عبارة "أميركا لن تسامح".

الساحة الدولية التي تركها الأميركي في سياسته الانعزالية خلال السنوات الأربع التي سكن فيها ترامب البيت الأبيض، سبّبت فراغًا استغلّته الدول الصاعدة والهادفة إلى دور لها على الساحة الدولية، وعلى رأسها الصين الاقتصادية، ومخطّط رئيسها شي جين بينج، "طريق واحد، حزام واحد"، الذي سيعمل على توحيد الجهود الدولية ليكرس تحالفًا بقيادة المارد الصيني، الذي استفاق لإعادة إحياء طريق الحرير، والذي هو شبكة من المسارات والطرق التجارية التي تربط الصين بجيرانها، وبالقارة العجوز، ويعود تاريخها إلى نحو القرن الثاني قبل الميلاد.

الساحة الدولية التي تركها الأميركي في سياسته الانعزالية، خلال السنوات الأربع التي سكن فيها ترامب البيت الأبيض، سبّبت فراغًا استغلّته الدول الصاعدة والهادفة إلى دور لها

إضافة إلى المبادرة التي طرحها الرئيس الصيني عام 2013، والتي ترمي إلى إعادة ربط الصين بالوجهات الدولية في آسيا وروسيا وأوروبا، تعمل الصين بالمباشر على سحب البساط من الهيمنة الأميركية على مفاصل العالم، لأنّها باتت تؤمن بالفكرة التي لخّص بها البحار الإنكليزي والتر رالي، فكر المدرسة الجيوبوليتيكية الألمانية، بالقول: "إنّ من يسيطر على البحر يسيطر على التجارة العالمية، ومن يسيطر على التجارة العالمية يملك الثروة، ومن يملك الثروة يملك العالم كلّه". فعلى ما يبدو تسير الصين اليوم في هذا التوجه، فكيف إذ تعتمد القيادة الصينية على امتلاك ترسانة عسكرية قد تكون الأضخم في العالم؟

العقدة الصينية هي اليوم مصدر قلق للسياسة الأميركية الجديدة، ومصدر قوة لخصوم الولايات المتحدة الأميركية. فالجمهورية الإسلامية في إيران تستغلّ وهن اللاعب الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، وتريد جرّه مذلولًا إلى مفاوضاتها النووية، من دون قيد أو شرط. فهي تمسك بيدها الورقتين الصينية والروسية الرابحتين، اللتين تظهرهما في وجه الإدارة الأميركية، ما يدفع بالأميركي إلى اختيار لغة الدبلوماسية واللين في التعاطي مع هذا الملف، رغم مخاوف حلفاء أميركا في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل.

لا تهادن إيران، ذات النفوذ الكبير في المنطقة عبر مليشيات داعمة لها منتشرة في أكثر من منطقة عربية، ولن تساوم على امتلاكها القنبلة النووية، على الرغم من تصريحات مسؤوليها، وفي مقدمتهم الرئيس حسن روحاني الذي عبّر مرارًا عن عدم رغبة إيران في ذلك. لكنّ السؤال يبقى: من سيربح في لعبة عضّ الأصابع بين أميركا وإيران في جلب الآخر إلى التفاوض بشروطه؟ فبحسب تصريح الرئيس بايدن بالدعوة إلى إحياء لجنة 5+1 دليل على تقديم مبادرة حسن نيّة إلى الجانب الإيراني.

سياسة النعامة التي اتّبعها ترامب مع الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في سورية وليبيا، قد أضعفت الموقف الأميركي، ودفعت بالروسي إلى التقدم وتثبيت وجوده على أكثر من ساحة

 سياسة النعامة التي اتّبعها ترامب مع الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في سورية وليبيا، قد أضعفت الموقف الأميركي، ودفعت بالروسي إلى التقدم وتثبيت وجوده على أكثر من ساحة؛ فبدءًا من أوكرانيا، وميناء سيفاستول، وتعمّد بوتين وضعه تحت السيطرة البحرية الروسية منذ عام 2008، إلى ميناء طرطوس، ودخول قوات فاغنر في الشمال الأفريقي وساحله، بالإضافة إلى مدّ اليدّ للّاعب التركي، على الرغم من تاريخية الصراع بين الإمبراطوريتين، لا سيما في مشروع السيل الشمالي لتدفق الغاز إلى العمق الأوروبي، وصفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 بين تركيا وروسيا، والقلق الأميركي بينهما، كلّها دلالات على فشل الإدارة الأميركية في لجم المدّ والتوسع الروسي والتركي معًا على أكثر من ساحة، سيما الشرق أوسطية، وصولًا إلى القوقاز بين أذربيجان وأرمينيا، والنهاية غير السعيدة في إقليم قرة باخ.

هذا، إضافة إلى اعتماد بايدن، ولو بطريقة غير مباشرة، على تسليم حلفائه الأوروبيين رزمة من القضايا الدولية، سيما الفرنسي في الملف اللبناني، والفرنسي والألماني في الملف النووي الإيراني. ناهيك عن إعادة الدور لحلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي صرّح رئيسه بالأمس القريب عن مضاعفة نفوذ قوات الحلف في العراق، لتغطية الدور الأميركي الذي يتعرّض لهجمات صاروخية من حلفاء إيران هناك.

صحيح أنّ الساحتين العالمية والشرق أوسطية تشهدان انحسارًا كبيرًا للنفوذ الأميركي، سيما سياسة العصا التي كانت ترعب العالم، والعقوبات الاقتصادية التي باتت أكثر من دولةٍ تتحايل عليها، لا بل تفكّر مليًا في كسر هيبة الدولار عملة رئيسية، من خلال طرح التبادل بين عملات الدول، لكنّ السؤال الرئيسي يبقى: هل سياسة الانسحاب التكتيكي الأميركي وسط جائحة كورونا، وتقلّص الاقتصاد العالمي، هي سياسة أميركية قديمة تعيد هيكلة قوتها خلف حدودها، وتنظّم وتعيد ترتيب بيتها الداخلي، بعد الأزمات الجمة التي تحيط بإدارة بايدن، والورثة السمجة التي تركها ترامب، فتترك اللاعبين الجدد يتقاتلون فيما بينهم على التفتيش عن مصالحهم، ومن ثم تعود؟ أم هي فعلًا استسلام أميركي للواقع المفروض، بعد عودتها متأخرة، ونحن على أبواب ولادة عالم جديد بقيادة جديدة؟

B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
B3845DCD-936C-4393-BC7F-0B57226AC297
جيرار ديب
كاتب وأستاذ جامعي لبناني
جيرار ديب