هل سيكون للمترجم وظيفة بديلة؟

30 مايو 2025

(Getty)

+ الخط -

يدور الحديث حالياً عن توصّل علماء التكنولوجيا إلى تطوير أجهزة (قد تكون شرائح مزروعة في الدماغ البشري) قادرة على ترجمة الصوت البشري فورياً إلى لغات أخرى، بنطق طبيعي، قد لا يكون بالنطق البشري المتقن، ولا يمكنه تعويض ذلك الإتقان، لكنّه سوف يكون ثورةً حقيقيةً في عالم التواصل البشري الطبيعي، إذ إنه سوف يزيل الحاجز الأكبر في عملية الاندماج بين البشر في المجتمعات المختلفة، أقصد اللغة، بِعدّها وسيلةَ تواصل مادّي وروحي في الوقت نفسه، ووطن ومنفى بالمفهوم الفلسفي لمعنى اللغة، ولكم أن تتخيلوا كم ستصبح الحياة سهلةً لمحبّي السفر والاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى! وكم سيلي ذلك من اختراعات جديدة، خاصّة في مواضيع اللغة والنطق والتواصل! فهل سيتم مثلاً اختراع شريحة تمكّن العقل من القراءة بلغة ثانية بسلاسة من دون الحاجة إلى دراستها مسبقاً أو استخدام القواميس؟ أقصد، أن يتمكّن الكائن البشري من قراءة أيّ كتاب بلغته الأصلية (هل ستبقى عملية الكتابة موجودة أساساً أم سوف تُستبدَل بطرائق افتراضية غير متوقّعة؟).
ما سبق يعيد طرح السؤال عن مستقبل الترجمة، ودور المترجمين، فالذكاء الاصطناعي حالياً يمكنه إنجاز ترجمة عشرات الكتب في وقت أقلّ بكثير ممّا يحتاج إليه مترجم بشري لترجمة فصل واحد من كتاب ما. والحال أن أغلب المترجمين حالياً باتوا يستخدمون منصّات الذكاء الاصطناعي لمساعدتهم في التغلّب على عثرات الترجمة، ممّا يسهّل عليهم إنجاز العديد من الكتب في أوقات أقلّ من السابق. والحال أيضاً أن هناك ترجمات تنشر بأسماء مترجمين من دون أيّ تدخّل منهم سوى لصق النصّ في المحادثة مع الذكاء الاصطناعي، والطلب منه الترجمة إلى اللغة العربية مثلاً، ثمّ النشر من دون أي مراجعة للأسلوب، وهو (في رأي كاتبة هذه السطور) سبب وجود تشابه مذهل حالياً في نصوص عديدة مترجمة، ولا سيّما الشعرية منها، فيبدو كما لو أن شعراء مختلفين من مجتمعات مختلفة يكتبون بالأسلوب ذاته، وهو ما لا يمكنه أن يكون صحيحاً، ذلك أن الشعر تحديداً يختزن ثقافة مجتمع وبيئة الشاعر، التي تنعكس في أدواته الشعرية، وتميّزه من غيره.
لكن، مهما تطوّرت عملية الترجمة باستخدام الذكاء الاصطناعي، فثمّة حدود للترجمة التقنية، ولا سيّما حين يتعلّق الأمر بترجمة الأدب والفلسفة، وهما مجالان يتطلّبان إحساساً بشرياً بالجمال والمعنى والصورة والخيال في الشعر، وبفهم المفاهيم المجرّدة والحسّ النقدي، وبمرجعية ثقافية كبيرة في ما يخصّ الفلسفة. فالخوارزميات قابلة جدّاً لأن تخطئ في فهم التورية والمجاز والغموض والسخرية والعمق العاطفي، هذا يحتاج إلى حدْس بشري بمعرفة وثقافة تراكمية، فالمترجم لا ينقل لغةً فقط، بل ينقل عوالمَ فلسفيةً وجماليةً كاملةً تتجاوز اللغة ومفرداتها. المترجم كاتب جديد للنصّ لا مجرّد ناقل له، يحمّله شحنته العاطفية التي تختلط بالشحنة العاطفية للنصّ الأصلي. وهو ما يعجز عنه الذكاء الصناعي المبرمج في لغة حيادية وباردة، حتى الآن طبعاً.
باختصار، إن العلاقة بين خوارزميات الذكاء الصناعي والمترجم البشري ينبغي أن تكون تكامليةً لا إلغائية، فوجود هذه الخوارزميات يسرّع ويسهّل عملية الترجمة التي تحتاج إلى شحنات عاطفية بشرية تُبثّ فيها روح الحياة التي لا تتيحها الآلة، وهنا يأتي دور المترجم البشري الذي عليه أن يراجع المعنى ويضبط الأسلوب، ويبحث في النصّ عن القيمة الإبداعية ليظهرها بحساسية دقيقة لا يملكها الذكاء الاصطناعي. ما يعني أنّ ثمّة أدواراً ووظائف أخرى قادمة للمترجمين (ليس شرطاً أن تكون المعرفة الكبيرة للغة النصّ الأم ضرورية لها)، كأن يتحوّل المترجم محرّراً للنص الذي تترجمه الخوارزميات، أو ربّما تُطلَق عليه تسمية "مُخرِج الترجمة"، أو ربّما يتطوّر ذلك ليصبح المترجم مدرباً أدبياً للذكاء الاصطناعي فيمكّنه من التقاط المعاني الخفية من تورية ومجاز وسخرية وغيرها. لكن مهما تطوّرت الآلة، ومهما وضع الإنسان من عصارة خبرته فيها، فإنها ستبقى عاجزةً عن امتلاك الذكاء العاطفي والثقافي الذي يملكه البشري، هذا الذكاء هو الأساس في عملية الترجمة الأدبية. ما يعني (ربّما) أن الآلة سوف تعجز عن الحلول مكان البشر في مجالات مختلفة، منها الترجمة موضوع هذا المقال.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.