هل سقط نظام الأسد في الثقافة السورية؟

04 يناير 2025

(عمران يونس)

+ الخط -

لطالما شكّلت العلاقة بين المثقّف والشارع السوري معادلةً معقّدةً، تداخلت فيها رواسب خطاب النظام العسكري مع نظرة نخبوية أفضت إلى اغتراب مزدوج؛ اغتراب المثقّف عن واقعه واغتراب الشارع عن رموزه الثقافية. بين مثقّف أُغري بخيال النخبة وانحاز لرؤى نظرية بعيدة عن معاناة الناس، وشارعٍ يعاني التهميش والشيطنة، ضاعت فرص الحوار، وتبدّدت آمال التغيير الذي يحترم الجميع. اليوم، وبعد 14 عاماً من الثورة التي اختبرت الجميع، يبدو السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن للمثقّف أن يعيد تعريف دوره ليصبح صوتاً جامعاً، وليس شاهداً على انقسام صنعه بنفسه؟
فيما مضى، تراجعت الهيئات التي كانت تمثّل نبض الشارع السوري عن موقفها بالانحياز إلى الشعب، خاصّة بعد أن خاض نظام البعث (انهار سياسياً في أواخر الثمانينيات) صراعاً دموياً مع كلّ معارضيه. في تلك الحقبة، غابت البيئة السياسية التي تستطيع احتواء الحراك الشعبي ومنح الثقافة مساحةً تعبّر عن فِكَر الناس وتطلّعاتهم. بدلاً من ذلك، اتجه الانتماء الجماهيري إلى طابع قَبَلي وفطري، مدفوعاً بتضخّم الجهل والخوف من القوى العسكرية التي أحكمت قبضتها على البلاد. وجد الناس في الدين ملاذاً اجتماعياً ومتنفّساً للهروب من ضيق الخيارات السياسية، بينما تحوّلت الهيئات الثقافية أدواتٍ رقابيةً تهدف إلى تقييد الفكر والسيطرة على العقول.
ظهر ذلك بوضوح في الإنتاج الثقافي للنظام مطلع الثمانينيات، إذ كُرِّست سردياتٌ تعزّز صورة الأسد (الأب) ونظامه، ووصم كلّ معارض بالعمالة، سواء كان من جماعة الإخوان المسلمين أو من أيّ تيّار سياسي آخر. استغلّ النظام هذه المرحلة لصنع ما أُطلق عليها "الطبقة المثقّفة"، وهي طبقةٌ وظيفيّةٌ أُريد لها أن تعبّر عن وجهه الثقافي والسياسي، لكنّها في الحقيقة كانت مُجرَّد واجهةٍ تروّج سياساته عبر الكتابة والفنّ. في هذا السياق، أصبحت الأعمال الفنّية والأدبية أدواتٍ لتكريس التسلّط، وشُغِل الناس بقصص البطولات الوهمية لجيش النظام ومسرحيات كوميدية سوداء تخدم في جوهرها أهدافه الدعائية. هكذا، تحوّلت الثقافة من قوة مجتمعية مؤثّرة أداةً بيد السلطة، تخدم مصالحها وتعمّق الانفصال بين المثقّفين الحقيقيين والشعب.

إبّان اندلاع الثورة السورية كان الشارع قد سبق الثقافة والمثقّف

وكلما استُحضِرت مفردة "مثقّف" في الذاكرة السورية، تجسّدت أمامنا الصورة الساخرة التي كرستها دراما نظام الأسد في التلفزيون، والمسرح، وقصصه الإذاعية، ونوادره. صورة مشحونة بالتخبّط والاستعلاء، تعكس انفصالاً تاماً عن الواقع، سواء في الشكل أو المضمون. كانت هناك قصدية واضحة في ترسيخ هذه الصورة عبر وسائل الإعلام التي تصل إلى كلّ بيت، إذ أصبح التلفزيون وسيلةً لتعزيز خطاب يستهزئ بالثقافة ويشوّه صورتها. تحوّلت المخيّلة الشعبية، بفعل هذا الخطاب بنكاً من الصور الكاريكاتيرية عن المثقّفين، وكلّ من يهتمّ بالثقافة، وقُدِّمت رموزاً للتهريج الاجتماعي، بلا قيمة تُذكر في الحياة أو في التعبير عن هموم الناس وتطلّعاتهم.
انطلاقًا من هذا الواقع، وكما يُعتقَد، صنع المثقّف السوري لنفسه بيئةً خاصّةً انعزل فيها داخل أروقة اتحاد الكتاب العرب، أو من خلال تعاونه مع مجلات عربية، أو انخراطه في مؤسّسات وهيئات ثقافية، سواء كانت عامّة أو خاصّة. لكنّه، بدلاً من أن يصبح صوتاً حرّاً يعبّر عن الناس، وجد نفسه محاصراً بواقع تمدّد طغيان نظام الأسد، وغير قادر على استخدام أدواته الفكرية لتشريح هذا التمدّد، الذي لم يقتصر أثره على المثقّفين فقط، بل امتدّ ليطاول جميع أفراد المجتمع، سواء أولئك الذين يهتمّون بالثقافة أو الذين لا يكترثون بها. أدرك المثقّف أن النظام لن يوفّر أحداً يحاول التفكير خارج إطار المسموح به أو يقدّم أيّ محاولة لتجاوزه وفضح ممارساته.
لعب المثقّفون الذين وقفوا إلى جانب النظام دوراً محورياً في دعم ماكينة الدعاية والتزييف، التي اعتمد عليها الأسد. ومع ذلك، يكشف تحليل مواقفهم عن عوامل متعدّدة قد تكون ساهمت في هذا الانحياز. وجد كثيرون منهم أنفسهم في مواجهة ضغوط هائلة؛ الخوف من القمع؛ الحرمان من العمل؛ حتى التعرّض للاعتقال والتعذيب، كانت جميعها أسباباً تدفع بعضهم إلى التماهي مع خطاب السلطة. بعض آخر تأثّر بمصالح مادّية أو امتيازات وفّرتها لهم مؤسّسات النظام، ما جعلهم جزءاً من منظومته. بينما كانت هناك شريحة صغيرة مقتنعة بصدقٍ أن بقاء النظام ضمانة للاستقرار، وربّما كانوا يجهلون حجم الجرائم المرتكبة أو يختارون تجاهلها. هذه العوامل لا تبرّر أفعالهم، لكنّها تسلّط الضوء على البيئة الخانقة التي جعلت التمرّد على السلطة أمراً مكلفاً، حتى على المستوى الفكري.
لقد لجأ المثقف إلى التمترس في المقاهي، والأصبوحات، والأمسيات الأدبية، فأصبح خطابه أقرب إلى أدبيات حزب البعث. كانت مشاغله "الوطنية" تُحدَّد بأوامر من "التوجيه المعنوي" التابع لماكينة الحزب الحاكم، التي فرضت عليه الالتزام بثلاثة خطوط حمراء يفكّر تحتها: الرئيس، والجيش، والأمن. في ظلّ هذه الظروف الخانقة، ما الذي كان يمكن للمرء أن يكتبه؟ ربّما استطاع بعضهم أن ينمّي قدرات فنّية بارزة مكّنتهم من تمرير نقد للنظام برمزية عالية، كما فعل الراحل جميل حتمل وزكريا تامر. ومع ذلك، كانت هذه الأصوات الاستثنائية قصيرة في قائمتها، وغالباً ما دفعت الثمن غالياً، سواء بالنفي أو بالسجن، بعيداً من وطنهم. هؤلاء كانوا يمثّلون الدور الحقيقي للمثقّف المبدع؛ أن يكون صوت الناس ومعبّراً عن أوجاعهم، وليس مُجرَّد مهرج في شاشات "البعث"، يُستخدَم لتزييف الواقع وخدمة السلطة.
إبّان اندلاع الثورة السورية منتصف مارس/ آذار 2011، كان الشارع قد سبق الثقافة والمثقّف. لقد وضع الوعي السياسي حدّاً لمهزلة العزلة الاجتماعية المشيّدة فوق عقول الناس، قذفت الثورة كرة ناره في مكاتب النقابات والاتحادات والمراكز الثقافية والهيئات الرديفة لحزب البعث. لقد نضج الاحتجاج في العقل السوري، أطلق رصاصة احتجاجه رفضاً للعبودية. وبعد كفاح دام 14 عاماً، انتصرت الثورة وأسقطت نظام الأسد. ودفع السوريون ثمن ذلك من الدمار والتهجير والدم ما يُغطّي الإنتاج الثقافي البائد كلّه، الذي كان يمعن بانفصاله عن سورية الحرّة ويقوّي دعاية الأسد في أبده الواهم.
وشهدت وزارة الثقافة في سورية خلال سنوات الثورة أدنى مستويات الانحطاط من خلال إنتاج "ثقافة التجهيل"، ودعم تحالفات النظام مع رموزه الاستبدادية. تحوّلت الوزارة منصّة لتمجيد الخطابات البعثية، التي صاغتها بثينة شعبان للرئيس المخلوع بشّار الأسد، وترويج التحليلات السطحية عن "المؤامرات الكونية" التي سعت إلى تضليل السوريين عبر وصف الثورة بأنها مُجرَّد حركة إرهابية مسلّحة تهدّد "استقرار سورية" (والاستقرار هنا ليس سوى استمرار حكم الأسد). كما كرّست مطابع الصحف التابعة لوزارة الإعلام أطناناً من الورق والحبر المموّلة من جيوب السوريين لطباعة مقالات وتحليلات هزيلة عن "صمود سورية" في مواجهة المؤامرة، وعن "بطولات الجيش السوري". ومع ذلك، كانت تلك البطولات المزعومة مُجرَّد وهم، إذ تركت القوات مواقعها مع تقدم الثوار في الأيّام التي سبقت سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024. انهار تاريخ "البعث" وثقافته، وتبدّدت تلك الأوهام الانتحارية كلّها، التي ضحّت بأموال سورية وشبابها في سبيل طاغية فرّ محاطاً بهالة من التضليل. تلك الهالة التي كانت الآلة الثقافية والإعلامية للنظام بارعة في صناعتها وإجبار السوريين على العيش داخلها طوال عقود من المأساة.
ليس سقوط نظام الأسد نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة تتطلّب إعادة بناء، ليس المؤسّسات السياسية والاقتصادية فقط، بل أيضاً الثقافة السورية التي شوّهها النظام عبر عقود. لإصلاح الثقافة السورية، يجب أن تُبنى على أسس جديدة تعكس تطلّعات الشعب السوري وتحرّره من إرث القمع والاستبداد. أولاً، يتطلب هذا الإصلاح فصل الثقافة عن السلطة السياسية تماماً، بحيث تصبح الثقافة مجالاً حرّاً يعبّر عن تنوّع المجتمع السوري بدلاً من أن تكون أداةً للدعاية. ثانياً، يجب تمكين المثقّفين الحقيقيين (كانوا صوتاً للناس خلال الثورة) من لعب دور ريادي في إعادة صياغة الهُويَّة الثقافية السورية. وثالثاً، يمكن إحياء الثقافة من خلال دعم الفنون والأدب المستقلَّين، وإيجاد منصّات جديدة تتيح للشباب التعبير عن أنفسهم بحرّية، بعيداً من هيمنة المؤسّسات الرسمية التي ارتبطت بالنظام. وأخيراً، لا بدّ من معالجة الجراح الثقافية والاجتماعية التي خلّفها النظام، من خلال تسليط الضوء على قصص الضحايا والمهمّشين، لتكون جزءاً من ذاكرة وطنية صادقة تساهم في بناء المستقبل.
اليوم، قد لا تكون أيادي أولئك الذين قضوا الليالي في كتابة سيناريوهات الأفلام والمسلسلات التي شيطنت الثورة السورية، وأساءت إلى كلّ من أيّدها، ملوّثةً بالدماء مباشرةً، لكنّها كانت أدواتٍ فعّالةً في خدمة ماكينة النظام القمعية. لقد أنتج هؤلاء مئات الساعات التلفزيونية والسينمائية، التي بُثّت لكلّ ناطق بالعربية، وصُوِّرت في مواقع دمّرها الطيران الحربي وبراميل النظام وصواريخه التي استهدفت السوريين. وفي كلّ مناسبة ومهرجان، لم يتردّدوا في تقديم التحيّات لصانع المجازر بشّار الأسد ولجيشه، الذي كان مُجرَّد خادم مخلص لنظامه. كانوا يظهرون في استوديوهات التلفزيون السوري ومواقع التصوير مرتدين زيَّ هذا الجيش، رافعين علمه الذي أصبح رمزاً للقمع، فوق تلال من الأرواح التي أُزهِقت برصاص قوات زعمت أنها تدافع عن الوطن.
ترى كيف يمكن أن نفهم اليوم "توبة" هؤلاء الذين لا يزالون في مواقعهم، يروّجون لسورية المستقبل من دون أيّ شعور بالخجل أو اعتراف بتضحيات شهداء الثورة السورية؟ يزعمون أنهم يجهلون وجود المعتقلات (المسالخ) التي بناها النظام لمن يعارضه. كيف يمكن لهم أن يستمرّوا في الحديث من دون أن ينحنوا احتراماً واعتذاراً لإرادة الشعب؟ ومن دون أن يعودوا قليلاً إلى صفحات التاريخ ليفهموا أن الشعوب لا يمكن قتلها، مهما تعاظم التدمير، وتفشّى التزييف، واستمرّت النصوص المدائحية لطاغية انتهى هو وعائلته إلى مزبلة التاريخ؟

محاولات تقديم الولاءات للثورة الآن لن تُخفِي حقيقة شراكة مثقفي نظام الأسد الطويلة في تغييب الوعي

أعتقد أن سقوط نظام الأسد يستوجب الإسراع في تهديم القيادات الثقافية التابعة لهذا النظام بأسرع وقت ممكن، فمحاولات تقديم الولاءات للثورة الآن لن تُخفِي حقيقة شراكتهم الطويلة في تغييب الوعي ودعم الروايات الكاذبة التي روّجها نظام الأسد الساقط لمواجهة الثورة السورية. لقد عمل هؤلاء بفاعلية على الانتقال من خدمة منظومة إلى أخرى، من دون أن يدركوا أن كلّ شيء موثّق، وأن انتقالهم المكشوف إلى صفّ الانتصار الشعبي لا يمكن تصديقه. بل إن بعضهم بدأ يكتب النصوص "الوطنية" التي لم تخلُ من البعثية، محاولين تفسير ثورة الشباب السوري بأسلوب يعكس انفصالهم عن الواقع. يكتبون باللغة الفصيحة المُشكّلة، بينما كانت صرخات الثورة بسيطة وواضحة: "حرية للأبد غصب عنك يا أسد"، تلك الصرخات التي عبّرت عن نبض الشارع الذي انعزل عنه هؤلاء منكبّين في مكاتبهم الممولة من الخدمات الثقافية الدعائية للنظام الساقط. لا بدّ لهؤلاء أن يختاروا طريقة سقوطهم، فقد تخلّفوا عن الثورة وأهانوا الشعب السوري عبر تصدير الكذب بأشكال متنوعة ومزيّفة، تتناسب تماماً مع صدق القتل الأسدي.
مع سقوط نظام الأسد، لا بدّ أن تلعب الثقافة دوراً مركزياً في بناء الدولة الجديدة، فهي ليست مُجرَّد أداة للتعبير الفنّي أو الفكري، بل عامل جوهري في إعادة صياغة العقد الاجتماعي الذي انقطع بين السلطة والشعب. يتطلّب هذا استعادة الثقة بين المثقّف والشارع، تلك الثقة التي تضرّرت بفعل عقود من التباعد والانفصال. على المثقّف أن يتخلّى عن نخبويته وينزل إلى مستوى معاناة الناس، حيث تصبح الثقافة تعبيراً عن هموم الشارع وآماله، وليس انعكاساً لتوجّهات السلطة أو المصالح الضيقة. وفي السياق السوري الجديد، يمكن للثقافة أن تكون الجسر الذي يوحّد السوريين بمختلف مشاربهم، من خلال تعزيز قيم التسامح والتنوع والانتماء الوطني. يجب أن تُطرح مبادرات ثقافية ومشاريع تعيد تعريف الهُويَّة السورية بعيداً من إرث "البعث"، وتستوعب جميع الفئات التي تعرّضت للتهميش أو الإقصاء. كما أن الثقافة قادرة على لعب دور علاجي، تسلّط الضوء على الجراح العميقة التي خلّفها النظام، وتفتح الباب أمام مصالحة مجتمعية قائمة على الحقيقة والعدالة.