هل سقطت إسرائيل في فخّ السنوار؟
"موزاييك"، مجلة أميركية يهودية مؤثّرة، وأخيراً (عدد فبراير/ شباط 2025) نشرت مقالاً مهماً طويلاً (نحو 9000 كلمة) بتوقيع رافي ديموج، وهو اسم مستعار لباحث مقيم في إسرائيل. وترتبط الكتابة باسم مستعار (في حالات كثيرة) بالرغبة في طرح فِكَرٍ جدليةٍ، وأحياناً تكون وسيلةً لتختبئ وراءها جهاتٌ لا تفضّل طرح فِكَر بعينها مقترنةً بها. ويتبنّى المقال منطقاً متماسكاً (رغم نزوعه الإجرامي)، وخلاصته أن الدولة الفلسطينية تبدو لدول غربية كثيرة نتيجةً وحيدةً مقبولةً (بل حتمية) للصراع، وهي فكرة يفكّكها الكاتب بدهاء، ويحاربها بشراسة، بلغة مخادعة.
يستعرض الكاتب أهم حجج مؤيّدي حلّ الدولتَين، مشيراً إلى عبارة "الاحتلال مُفسِد"، فعندما تحكم إسرائيل شعباً آخر ينجم تأثير تآكلي في مجتمعها. ولتصبح إسرائيل "دولةً طبيعيةً"، عليها العيش مع الفلسطينيين، بدلاً من حكمهم، وإذا أرادت ألا تصبح دولة منبوذةً؛ فالأفضل أن تنسحب وفقاً لشروطها. ويقرّر الكاتب بتبجّح أن "الانسحاب ليس خاطئاً بسبب الحقّ الإلهي لإسرائيل"، أو لأن "مطالباتها التاريخية والتوراتية" يجب أن تعلو على ما سواها، بل "يجب أن تسعى إسرائيل لدرء مخاوفها الأمنية بأيّ ثمن، بغضّ النظر عن الرأي العام الدولي". والمشكلة هي في تطلّعات الفلسطينيين، ومع دولة فلسطينية ستصبح إسرائيل مستقبلًا أكثر عزلةً، بل ربّما تصبح دولةً منبوذةً. فهذه الدولة ستجد نفسها في صراع مسلّح مع إسرائيل، إمّا طرفاً محارباً، أو ضحيّةً عاجزةً عن كبح جماح جماعات مثل حركة حماس. وتنازلات إسرائيل السابقة تبعها عنف (بعد قمّة كامب ديفيد 2000)، وانطلقت الانتفاضة الثانية. وبعد الانسحاب من غزّة (2005)، أطاحت "حماس" السلطة الفلسطينية، وبدأت تطلق الصواريخ، فالانسحاب "يؤدّي إلى الحرب أكثر بكثير من الاستيلاء على الأراضي".
والنظام التعليمي الفلسطيني "يعلّم" معاداة الساميّة، ويمجّد الاستشهاد، وتُظهِر الاستطلاعات باستمرار مجتمعاً متطرّفاً يعيش حالة تعبئة دائمة. وظلّ الدعم الفلسطيني للسابع من أكتوبر (2023) عند نحو 70%. وردّاً على سؤال: لماذا وقع الهجوم، ذكرت أقلية ضئيلة الاحتلال، وذكر عدد أصغر المستوطنات، وكانت الإجابات المكتسحة "تحرير فلسطين" و"حماية الأقصى". فالأغلبية مقتنعة بحتمية القضاء على إسرائيل، والدافع الأساس "الأصولية الدينية". وأيديولوجية "حماس" وسلوكها "تعبير أصيل عن تطلّعات الفلسطينيين". والحرب الحالية ليست استثناءً في ردّات الفعل عليها، بل تمثّل نمطاً مستقرّاً؛ "تواجه إسرائيل رياحاً معاكسةً كلّما كانت في حرب (كلّما ازدادت دمويةً، زادت قوة الرياح). وفيما يخصّ أميركا بالتحديد، ما يحدّد مدى تأييد إسرائيل قوة المعتقد الديني المسيحي، وليس أيّ سياسة إسرائيلية بعينها.
سمعة إسرائيل تتضرّر أكثر عندما تدافع عن نفسها، ويشعر معظم مؤيّديها بالقلق من عزلتها دولياً
ومع دولة فلسطينية لن تُمنَح إسرائيل "مساحة أكبر للدفاع عن نفسها ضدّ دولة فلسطينية تهاجمها، مقارنة بما تُمنَح لمواجهة جماعات فلسطينية لا تتمتع بوضع الدولة". حتى أنصار إسرائيل، الليبراليون، الذين يشجّعون تنازلها لتملك "مصداقيةً" للدفاع عن نفسها بقوة، سيجدون أنفسهم "عاجزين عن دعمها بمجرّد رؤية كمّ الدماء التي يستلزمها ذلك"، وهم لا يفهمون أن السابع من أكتوبر (2023) "ليس استثناءً"، وينبغي توقعه دائماً. وعلى أصدقاء إسرائيل في الغرب تغيير موقفهم من حروبها تماماً، والإعلان بوضوح أن هدف أيّ حرب هو "النصر الإسرائيلي الكامل"، وأن يؤكّدوا "حقّها" في القيام بكلّ ما يحقّق ذلك. والخلاصة الأكثر أهمية في المقال، أن سمعة إسرائيل تتضرّر أكثر عندما تدافع عن نفسها، ويشعر معظم مؤيّديها بالقلق من عزلتها دولياً، بازدياد عدد الضحايا، وتحوّل الرأي العام ضدّها، فما يهم هو "الحرب" و"الموت"، وليس مفاوضات الوضع النهائي.
وبقراءة استراتيجية يحيى السنوار، عندما اتخذ قرار عملية طوفان الاقصى، في ضوء هذه الخلاصة، فإنه على الأرجح استخلص بعد سنوات من دراسة تاريخ الصراع أن الفخّ الأخطر على إسرائيل هو استثارة ردّة فعل أكثر عنفاً يضعها في مواجهة العالم، والنمط المستقرّ الذي استخلصه كاتب المقال من عقود من جولات الصراع هو نفسه ما أدركه السنوار ونجح في جرّ إسرائيل إليه. وتبنِّي كاتب المقال فكرة "حتمية النصر المطلق"، بغضّ النظر عن أيّ رأي عام وأيّ عزلة دولية، قد يكون مؤشّراً على مسار انتحاري تندفع إليه إسرائيل، يستحضر ما يسمى "أعراض ماساداه".
ومن نافل القول إن الثمن الإنساني كبير جدّاً، وأن التحليل واستكشاف البصيرة التي كانت وراء القرار لا يغلق الباب أمام التقييم والنقد، لكن الخلاصة في تقدير كاتب هذه السطور "مدهشة".