هل دخلنا عصر علم النكبات؟

06 مارس 2025

(أحمد الشرقاوي)

+ الخط -

تشكّل التصريحات أخيراً للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشأن رغبته في تهجير سكّان غزّة نحو الأردن ومصر، علامةً فارقةً في الصراع حول القضية الفلسطينية، الذي يحتدّ وتزداد وتيرته في الارتفاع، ليأخذ طبيعته التي طالما حاول بعضهم التعمية عليها، وهي الطبيعة الصفرية الوجودية، ما يدفعنا إلى تحليل ذلك الارتباط بين تلك التّصريحات والعقل العربي المُكبّل، مع التّركيز في المانع له من مجاراة العدوّ، وهي مُكبّلات أو كوابح بعضها ممّا يُشار إليه بالأرقام، ممّا يتّصل بالاقتصاد أو التربية أو البحث العلمي... وبعضها الآخر ممّا يمكن الإشارة إليه من خلال فِكَرٍ ذات صلة بالتأخّر والتخلّف والاستعصاء على الانطلاق في رحاب المنافسة والكفاءة والندّية مع عدو يتعامل مع فراغ، وليس مع كائنات موجودة، والحديث هنا يستثني تلك الطائفة التي وقفت الندّ للندّ، وما زالت تحاول تصحيح معادلة الصراع في فلسطين بالذات، التي عرّت وضعنا، وكشفت الكوابحَ أو المُكبّلات.
يأتي الحديث عن العقل العربي المُكبّل من خلال التذكير بمقالة سعد الدين إبراهيم (رحمه الله)، التي كتبها في 1998، تحمل عنواناً يليق بطبيعة الفترة الحالية، وهي "علم النكبات العربية... دروس و عبر"، تحدّث فيها عن انتقال معنى النكبة من مُجرّد عبارة تصف وضعاً تاريخياً يتّسم بالخسارة لفضاء جغرافي أو لمعركة مصيرية، إلى معنىً يحمل طبيعة العلم بالنسبة للفضاء الجغرافي العربي، بسبب الخسارات المتتالية من الأندلس إلى فلسطين، ثمّ الخليج، موضّحاً بعدها الأسباب التي أدّت إلى ذلك، من غياب العقلانية في إدارة الصراع، إلى غياب الديمقراطية وثنائية "التهوين أو التهويل" لقوّة العدوّ، وصولاً إلى التّناقضات في المصالح العربية، ثمّ مستشرفاً المستقبل، متنبئاً بصعود أدوار الفواعل غير الدولة في الفضاء العربي، على غرار حركة حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي.

من مميّزات العقل المُكبّل أنه لا يُفكّر، ولا يعرف رهانات الحاضر ولا تحدّيات المستقبل

بما أنّ الطبيعة تخشى الفراغ، فإن مقدّمة الحديث ستكون حول مفهوم العقل المُكبّل، وكيف يمكن قياس درجة تكبيله من خلال تلك المؤشّرات، ذلك أنّ المفهوم معروف، والجميع من المحيط إلى الخليج يعرفه، ويتأكّد يوماً بعد يوم من أنّه ظاهرة ملازمة للوجود العربي المعاصر، ومرتبط أشدّ الارتباط بعديد المؤشّرات على غرار التسلُّطية، وانعدام حريّة البحث العلمي، وقصور في السياسات العامّة، في كل المجالات، إضافة إلى محيط إقليمي ودولي يساعد في إدامة ذلك العقل المُكبّل في سباته، لأن إفاقته من غفوته تُشكّل تهديداً لوجود كيان زُرِع عنوةً في المنطقة، ولأنّ إفاقته ستعيد تعريف الحرّية والعدالة والحكم بمرجعيات مختلفة عن تلك التي يتعامل من خلالها الغرب، ويعدّها المرجعية الحصرية دون غيرها، ولهذا صار يُسمّي تلك المرجعية المغيّبة بـ"الانعزالية" (فرنسا)، أو بـ"الإرهاب" و"التطرّف" (أميركا والغرب عموماً).
من مميّزات العقل المُكبّل أنه لا يُفكّر، ولا يعرف رهانات الحاضر ولا تحدّيات المستقبل، كما أنّه لا يعرف تاريخه إلا من خلال مصادر تمّ تشويهها أو أمْلت جهة ما (بفعل نشوة الانتصار) سرديةً تأريخيةً منحرفةً فُرِضت عليه، وعلى أجيال مقبلة، من خلال التنشئة والبرامج التربوية. من مميّزات ذلك العقل أيضاً، أنّه يمقت المعرفة، ولا يقيم لها وزناً، إمّا جهلاً منه أو لقصور الحرّية وتغييب البحث العلمي، أو لتخصيص أدنى الموارد له، فلا تتعدّى نسبة ما يُخصّص للبحث العلمي في العالم العربي كلّه 0.5%، ممّا يؤدّي إلى اختراقٍ مادّي ومعنوي للعقل، للوعي والحياة العربية برمّتها، فلا يأكل ممّا ينتج، ولا يلبس ممّا يخيط، كما لا يُعالِج بدواء مصدره مخابر علمية، لأنّ ذلك كلُّه مُغيَّب، ولعلّ قصةً أوردها أحدهم لطالب مهندس في بلد ما اقتيد إلى التّحقيق، بل سُجن، بسبب أن مشروع تخرُّجه كان إنتاج طائرة درون (مُسيّرة)، خير شاهدٍ على الوضع المتردّي للعقل المُكبَّل، وكأنّ العلم من الممنوعات أو من المحرّمات، ضمن الثلاثية المنوعة على العالم العربي، وهي التطوّر والتنمية والديمقراطية.
من مميّزات ذلك العقل أنّه يعيش بهُويَّة غير سويّةٍ، فلا هي بمضامين جامعة، ولا بتمايزات فرعية تثري التّوافق والاجتماع البشري، بل أبعد من ذلك؛ يعيش العقل المُكبّل بلا لغة تميّزه، فلا هي مفردات مجمع على فهمها (بالمعنى نفسه) لدى الكلّ، ولا هي باشتقاقاتها متأصّلة، فلا تمتُّ بصِلة إلى لسان العرب لابن منظور، ولا إلى أسلوب الرفاعي أو زكي مبارك، في الحديث على الأقلّ، إذ يكفي أن تسمع مغاربياً أو مشرقياً يتحدّث، لتجد لغةً هجينةً خليطاً من الفرنسية أو الإنجليزية، ومفهوماً أضحى محلّياً أكثر، وغارقاً في الانتماءات الضيّقة، لتكون النتيجة دعوات بالاستغناء عن اللغة الجامعة للهُويَّة واستبدالها، إمّا باللغة/ اللهجة المحلّية، التي اختارها بعضهم لكتابة الشعر أو الرواية، أو باللجوء إلى لغاتٍ أجنبيةٍ لتدريس المواد العلمية، بحُجَّة أن اللغة الأم أضحت لا تشمل سياق التطوّر والتقدّم، ما ينتج جيلاً ممسوخاً ومقطوعاً من تاريخه وهُويَّته وموروثه المعرفي الحضاري.
انتهى العقل المُكبّل بفعل التسلّطية، التي هي عامل مؤثّر، بل جاذب للكوابح من الثلاثية المذكورة، الى التأخّر عن ركب الحضارة، إذ صُنّف ضمن الاستثناءات العالمية في اللحاق بموجات الديمقراطية المختلفة عبر التاريخ، وبُحِث أكاديمياً (في دراسات وأبحاث) عن أسباب ذلك الاستعصاء لتكون، تارة هي الريع النفطي، الذي يُشكّل المانع الأكبر لأنّ السلطة تصبح مع توافر موارد الريع غير محتاجة إلى الضرائب، وتكون مُتحرّرة بالتالي من رقابة المواطنين في صرف المال العام وعمل الحكومة، وتارة أخرى، يتم اللُّجوء إلى التّفسير الخاص بالعامل الحضاري، بادّعاء أن العرب والمسلمين متأخّرين عن ركب التّغيير بسبب رفضهم للآخر، وبسبب مضمون موروثهم، خاصّة الديني، الذي يدفعهم إلى الانعزال أو التطرُّف إزاء إشكاليات التغيّر والتطوّر.
عامل مؤثّر آخر أطلق عليه ابن خلدون اسم "الدعة"، أي رغد العيش أو هامش الرّاحة، التي يختفي في داخلها الإنسان العربي، تتضمّن مجموعةً من الإشكاليات الحيوية، يُرفض التّعامل معها، خاصّة مع التّفاهة التي أضحت مسيطرةً في حياة النّاس مع ظهور وسائل التّواصل الاجتماعي، وهي ما غيّر تصنيف سُلَّم قيم المجتمع. تؤدّي الدعة إلى تفاهةٍ مزدوجةٍ، أولاهما من إسهامات التافهين، الذين تصدّروا المشهد على حساب الوعي والعقل، والأخرى تفاهة من المجتمع المتلقّي، الذي يفضّل البقاء والإبقاء على تلك الدّعة بدلاً من تطوير مقاربات المشاركة في الحضارة أو التّصارع مع العدوّ، كلٌّ وفق الحالة التي يوجد فيها، فاسحاً المجال من ناحية أمام التّسلُّطية لتدوم، وفق ابن خلدون، الذي يؤكّد أنّ فراغ المغالبة تكون نتيجته بطئاً في مرحلة سقوط الدولة. ومن ناحية أخرى، فاسحاً المجال للفرد الذي يستقيل من الفعل المؤثّر أو المنتح للحركية. وفي النتيجة، يتفوّق العدوّ وتجد التسلّطية مجالاً حيوياً للاستدامة، مع ما لذلك من تداعيات على تعافي الجسم العربي أو إيجاده أدوات البقاء في فضاء تصارعي صفري، حقّاً.
لا يمكن تشخيص حالة العقل المُكبّل من دون وضع وصفة علاج أو اقتراح البديل، وهو أولاً (وقبل أيّ شيء) مرتبط بمسألة وعي يجب أن يستفيق، وعقل يجب أن يعود إلى دورة التفكير والدروس، التي نفكّر بها (باعتبارها أدوات للمستقبل) فيما نُصاب فيه، إنّما هي عبرة لما يليها، وليست مدعاةً لنشر اليأس والعودة مرّة أخرى إلى المرض ذاته، والدعة التي انتشرت، ونخرت الجسم العربي، وصارت متلازمةً لحركته وسكونه. هناك اشتراك للفاعلين (سلطة ومواطنين)، في مسؤولية الوضع الذي عليه الوعي والعقل العربيَّين المُكبّلَين، والحلّ في نقلهما من المشاركة إلى الشّراكة، أي لا يمكن أن يكون لأحد الفاعلين الغلبة والسّطوة، كما لا يمكن تغييب الطرف الآخر، لأن المعادلة تحتاج إلى الفاعلين، كليهما، جنباً إلى جنب، في إطار عقد اجتماعي جديد، يكون محوره ثلاثة أساسات: تنشئة جديدة، وثقافة سياسية مرتكزة على الشّراكة، وعقد اجتماعي يُوثّق التوجّه الجديد.

لا تتعدّى نسبة ما يُخصّص للبحث العلمي في العالم العربي 0.5%، ممّا يؤدّي إلى اختراقٍ مادّي ومعنوي للعقل وللحياة برمّتها

تكون التنشئة في البداية محلّ تركيز، لأنّ ما يستقبله العقل، في مناهج التّربية والتعليم، وبما يسانده الآن من تفاهة وسائل التّواصل الاجتماعي، ومصادر التنشئة الأخرى المشوّهة، تصيب العقل في مقتل ممّا يُؤكّد خطورة المسألة التي يجب أن تبدأ من بناء عقل يركّز في أهمّية دورة التفكير، كما يجب أن يتمحور فكر واضعي البرامج والمناهج على زرع أساسات الهُويَّة الجامعة، والتفريق بينها وبين التمايزات الفرعية، أو الوافد من مشوّهات الهُويَّة، وبلغة تكون سليمةً فصيحةً، وبالمفاهيم المتوافق عليها مجتمعياً. يتواصل المشروع بالتّركيز في جدلية الشّراكة والمشاركة في صنع السياسيات والخيارات المصيرية للأمّة، فلا يمكن لجهة أو طرف أو جناح أو محور في المجتمع أن يستأثر بالقرار ويجعله حِكراً عليه وعلى جماعته، ليكون المبدأ هو خياراً مجتمعياً وتوافقياً في كلّ ما يخصُّ مصير الأمّة في شؤونها كلّها، ولا يمكن لذلك أن يتم من دون إقرار منظومة حرّيات وحقوق وواجبات للعمل على نشر المساواة، وتحرير الوعي والعقل من التكبيل السلطوي. يتطوّر العمل إلى إقرار المجتمع بعقد اجتماعي جديد، تكون أساساته ثلاثية الكفاءة - النّجاعة - الرشادة، بخلفية المسؤولية والمساءلة، تُقرَّر فيه منظومة الحقوق والحرّيات، ومشروع المجتمع، مع خيارات استراتيجية للارتقاء بالأمّة إلى مصاف الفاعلين على المستويات الإقليمية والدولية.
تماماً، مثلما ما فعل سعد الدين إبراهيم، في مقاله المشار إليه، ربما تكون تلك بعض الدروس المستقاة من الأحداث أخيراً في فلسطين، من "طوفان الأقصى" إلى صفقة وقف إطلاق النار وتصريحات ترامب، ذلك أن ما جرى، ويستمرّ في الحدوث يوماً بعد يوم، قد يكون داعياً إلى التفكير وإحياء الوعي والعقل، والخروج من سياق العقل المُكبّل بالأدوات التي ذكرنا جانباً منها. وللعلم، هو التشخيص ذاته، والدّواء الذي سبق للكثيرين اقتراحه، وكان حريّاً بنا، على خلفية ما حدث وأوقع الروع في ذواتنا، أن نعيد التذكير به، لأن التكرار يؤدّي إلى الإصرار، والإصرار يؤدّي إلى تعزيز دورة التفكير، وهي الخطوة الأولى للانبعاث، وتلك فكرة أخرى قد نحتاج إلى بسطها أكثر.