هل حقاً ترامب غير قابل للتنبؤ؟

لازمت مقولة "غير قابل للتنبؤ" (Unpredictable) الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ ولوجه معترك السياسة، وما زالت تلازمه، لا بل إن القرارات الهوجاء التي اتخذها في ميادين داخلية وخارجية كثيرة أكّدت الفهم السائد حول عدم القدرة على معرفة ماذا سيفعل في اليوم التالي. فمن كان يتنبّأ مثلاً أنه سيطرح مشروع تهجير الفلسطينيين بلا حياء وفي العلن، ويدافع عنه أمام الكاميرات وفي زيارات رؤساء دول تربطهم بالولايات المتحدة علاقة شراكة في جوانب كثيرة. مع ذلك، بدا واضحاً، واستدلالاً بعدة مؤشّرات مرتبطة بأفعاله وقراراته، أن ترامب يتحرّك ضمن منهجية محدّدة المعالم، ولديه رؤية متماسكة لما يريد، ولا يتحرّك بالطريقة الهوجاء غير القابلة للتنبؤ كما يراه كثيرون. كيف؟
ترامب ليس جمهورياً، وليس ديمقراطياً أيضاً، هو مدرسة جديدة في العمل السياسي في الولايات المتحدة، يمكن أن يطلق عليها "المدرسة الترامبية". دخل العمل السياسي للمرّة الأولى عام 1987 جمهورياً، وبقي في الحزب حتى عام 1999. خلال الأعوام 1999-2001، تحوّل إصلاحياً، فما لبث أن دخل الحزب الديمقراطي عام 2001، واستمرّ في النشاط الحزبي الديمقراطي حتى عام 2009، ثمّ عاد إلى الحزب الجمهوري عامَين (2009-2011) وخرج منه، ثمّ عاد إليه للمرّة الثالثة لخوض الانتخابات الرئاسية. ويعكس هذا التقلب الحزبي حالة عدم انسجام فكري ترامبي مع أيٍّ من الحزبَين، الجمهوري والديمقراطي، وأن لدى الرجل في الحقيقة تصوّرات ورؤى مختلفة لإدارة الحكم في الولايات المتحدة، وفي العلاقة مع العالم.
إن حملت القوة العسكرية التدخّل الأميركي في الساحة الدولية مرّات محدودة، فقد حملت القوة الناعمة الأميركية هذا التدخّل يومياً منذ 1945
وهنا يبرز السؤال، ما هي أكثر الميزات أهميةً للمدرسة الترامبية، التي تختلف بها خصوصاً عن الحزب الجمهوري بعقيدته التقليدية، ونجح في انتخابات الرئاسة مرشّحاً عنه؟... أولاً، في العلاقة مع النظام الدولي، عمل الحزبان، الجمهوري والديمقراطي، تاريخياً في بناء نظام دولي بقوانين ومؤسّسات تحمله، ويكون موقع الولايات المتحدة قائدةً لهذا النظام، يضمن لها تحقيق سيادتها ومصلحتها القومية، كذلك عمل الحزبان في بناء شراكاتٍ دولية، تحديداً مع أوروبا، لترسيخ أسس هذا النظام الذي يضمن سيادة أميركا وقيادتها، واستفادة الحلفاء أيضاً من هذه الشراكة. في المقابل، تتحلّل المدرسة الترامبية من النظام الدولي، ومن علاقات الشراكة الأوروبية، والأخرى مع اليابان وكوريا الجنوبية، وتعمل في الساحة الدولية قوّةً منفردةً مدعومة بترسانتها العسكرية الضخمة، لتحقيق مصالحها، وحدها من دون الاعتماد على الشركاء. وبذلك، لا تهمّ المدرسة الترامبية كثيراً، لا اتفاقيات باريس للمناخ، ولا علاقات الشراكة مع أوروبا، ولا حتى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي تأسّس في 1949، وبقي طوال هذا الوقت يجسّد العقيدة الأمنية لأميركا، وبقية أعضائه، حتى إن ترامب في أحدث تصريحاته يتهم "الناتو" أنه المسؤول عن بدء الحرب في أوكرانيا.
ثانياً، في تكامل القوة الصلبة (Hard Power) والقوة الناعمة (Soft Power)، إذ عمل الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، تاريخياً على تعزيز الحضور الأميركي في الساحة الدولية، من خلال التلويح بالقوة العسكرية، ولو أن الحزب الجمهوري استخدمها بشكل أوسع، وفي أزماتٍ عديدة (العراق وأفغانستان مثلاً)، لكن القوة الناعمة، المتمثّلة في نشر القيم الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، بقيت المحور الرئيس الذي حمل التدخّل الأميركي في العالم، وحقّق مصالحه من خلال التمترس وراءها، والادّعاء بتوكيل أميركا نفسها حاميةً لهذه القيم، فإذا حملت القوة العسكرية التدخّل الأميركي في الساحة الدولية بعدد محدود من المرّات، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقد حملت القوة الناعمة الأميركية هذا التدخّل يومياً منذ 1945. ما يميّز المدرسة الترامبية أنها أسقطت، وبقرار واعٍ، القوة الناعمة، واعتمدت على قوتها العسكرية فقط، ومن دون الشركاء التقليديين أيضاً، لتحقيق مصالحها، آخذة تتوّعد هذا وذاك بالجحيم، إن لم يمتثل للقرارات الأميركية، ومهددة باستخدام القوة الصلبة لحلّ خلافاتها في الساحة الدولية، حتى إن ترامب لم يستبعد استخدام القوة العسكرية لاستعادة قناة بنما. ويتمثل التجلّي الأكبر لإسقاط المدرسة الترامبيةِ للقوة الناعمة في مشروع الرئيس الأميركي لتهجير قطاع غزّة، غير مكترث لقانون دولي (قوة ناعمة) ولا لقيم ديمقراطية ولا لحقوق إنسان ولا غيرها. ويبرز الاختلاف بين العقيدتَين، الجمهورية والترامبية، هنا في معارضة أحد صقور الحزب الجمهوري التقليديين، ليندسي غراهام، خطة ترامب تهجير الفلسطينيين من غزّة.
مثال آخر لإسقاطِ الترامبيةِ القوّةَ الناعمة يمكن رؤيته في وقف المساعدات الإنسانية، وتحديداً قرار إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية (USAID)، التي عملت منذ تأسيسها عام 1961 على تسويق الصورة الإنسانية للولايات المتحدة، التي شكّلت موطئ قدم لتدخّل أميركي لاحق في شؤون هذه الدول. فلوزير الخارجية الحالي ماركو روبيو (جمهوري تقليدي) خطابات عديدة في الكونغرس يدافع فيها عن نظرية تحقيق الأمن الأميركي من خلال المساعدات، التي توفّر للولايات المتحدة النفوذ (Leverage) الذي تريد لحماية أمنها. أمّا اليوم فقد وجد نفسه في مأزق؛ كيف له أن يعمل في إدارة المدرسة الترامبية مخالفاً آراءه السابقة بخصوص المساعدات الإنسانية.
ثالثاً، في الاستراتيجي والآني والعقيدة الأيديولوجية للنظام الرأسمالي، إذ آمن الحزبان التقليديان، الجمهوري والديمقراطي، بأن نشر القيم الديمقراطية في العالم وبناء أنظمة ديمقراطية في دول عديدة يمثّل الضمانة الاستراتيجية للمصلحة الأميركية في العالم. تحديداً، المحافظون الجدد (الجمهوريون) في فترة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، قادوا مشروعاً للتغيير في الشرق الأوسط يقوم على نشر العقيدة الديمقراطية وبناء الأنظمة التي تحرسها، يبدأ من العراق لينتشر في باقي المنطقة. ومن أجل ذلك، نشروا أكثر من مئة ألف جندي أميركي في المنطقة، وخصّصوا مئات المليارات لتحقيق المصلحة الاستراتيجية الأميركية. أسقطت المدرسة الترامبية، أولاً، نشر العقيدة الديمقراطية، وبناء الأنظمة الحامية لها، وبذلك ألغت التخطيط الاستراتيجي للحفاظ على المصلحة الأميركية، وتحالفت ودعمت بشكل مفضوح الأنظمة الديكتاتورية التي تحقّق لها مصالحها الآنية، من دون الاكتراث بما يمكن أن يحصل لاحقاً. وعليه، فإن الترامبية السياسية لن تقوم بالدفاع عن القيم الديمقراطية أينما كانت، ولن تكترث بانتهاكات حقوق الإنسان مهما بلغ مداها، لا بل انخرطت انخراطاً سافراً في مثل هذه الانتهاكات، مثل خطّة التهجير في غزّة، ووقف نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، في قمّة ميونخ للأمن موبّخاً الحكومات الأوروبية (شركاء أميركا التقليديين) لوضعها العقبات أمام وصول أنظمة يمينية متطرّفة إلى الحكم في أوروبا.
رابعاً، في معنى القوة (Power)، إذ يشكّل البحثُ عن القوة الاقتصادية المحرّكَ الرئيس لتوجّهات المدرسة الترامبية، فلا مكاسب للسياسة الخارجية إلا المصادر والمال والاقتصاد على حساب عناصر القوة التقليدية لدى الإمبراطوريات الأخرى مثل انتشار القواعد العسكرية في أرجاء العالم، والسيطرة على مناطق نفوذ استراتيجي وغيرها. فالحفاظ على الأمن الأميركي في الحدود مع كندا ضدّ الهجرة غير الشرعية مثلاً يكلّف المليارات من الدولارات. وعليه، فالحلّ، حسب المدرسة الترامبية، هو ضمّ كندا للولايات المتحدة، حتى يتم توفير المليارات على الخزانة الأميركية، والحلّ للرسوم العالية للسفن الأميركية، التي تمرّ بقناة بنما هو بالسيطرة على القناة مرّة أخرى. كذلك فقد أعلن ترامب نيّته خفض عدد الجنود الأميركيين في ألمانيا خلال فترته الأولى من 34 ألفاً إلى 22 ألف جندي أميركي، وذلك لأن بقاء العدد الكبير يكلّف الخزانة الأميركية نفقاتٍ كثيرة، فهو يقدّم التكلفة على الوجود العسكري الأميركي الاستراتيجي في قلب أوروبا في ألمانيا.
خامساً، في العلاقة مع البيت الداخلي، أيّ المجتمع الأميركي، فالحزب الجمهوري التقليدي بكلّ يمينيّته لا يتطرّف بالمستوى المفضوح من العنصرية وتفوّق العرق الأبيض، كما تفعل المدرسة الترامبية، ويظهر ذلك في كره الأجانب وتسفيرهم من داخل الولايات المتحدة، والأدهى من ذلك الهجوم على بيت التشريع الأميركي (الكونغرس)، كما فعل الترامبيون في السادس من يناير/ كانون الأول 2020 بعد خسارة ترامب في الدورة الانتخابية الماضية.
ضمن هذه المحدّدات، التي تشكّل عقيدة المدرسة الترامبية، يمكن فعلاً التنبّؤ بما سيتّخذه هذا الرجل من قرارات خصوصاً في الساحة الدولية، فدونالد ترامب لا يتصرّف بطريقة هوجاء غير محسوبة، ومن دون رؤيا وغير قابلة للتنبؤ، بل على العكس، يتصرّف ضمن هذه المنطلقات مع المشاكل التي تواجهه والتي لا تواجهه، فلا يتردّد بخلقها من أجل مضاعفة قوته الاقتصادية الآنية غير المقنّعة بالقيم والأخلاق (Soft Power)، إذ لا يهمّه خسارة شركائه التقليديين، والسقوط في انتهاكات أخلاقية وقيمية لفظها المجتمع الإنساني تاريخياً، إلا أنها أصبحت مقبولةً ومعمولاً بها ضمن العقيدة الترامبية التي تُمارَس في البيت الأبيض.
لا يتصرّف ترامب بطريقة هوجاء غير محسوبة، ولا يتردّد في التسبب بالمشكلات من أجل مضاعفة قوته الاقتصادية غير المقنّعة بالقيم
أخيراً، هناك سؤال يطرح نفسه عن مدى قابلية عقيدة سياسية، بهذا المستوى من الفجاجة والخطورة، للديمومة والاستمرارية بعد انتهاء فترة حكم الرئيس الأميركي الحالي ترامب. عاملان يحدّدان مدى الديمومة الترامبية، الأول يتعلّق بترسيخ ثقافة ترامبية على مستوى اليمين الشعبي الأميركي، تكون هذه الثقافة قادرةً على انتخاب رموز بهذه العقيدة، وثانياً ولادة رموز سياسية قادرة على حمل العقيدة الترامبية بعد انتهاء فترة حكمه الثانية. أمّا من ناحية القاعدة الشعبية، فيمكن القول إن هناك كثير من الشعبويين الذين لديهم الرغبة لانتخاب ترامبيّين بهذا المستوى من العنصرية، ولكن ما زالت غير قادرة على ترسيخ أركانها في داخل المجتمع الأميركي الأوسع. ثانياً، لم يولد حتى اللحظة ترامبيّون جدد كثيرون لديهم القدرة على القيام بأدوار مشابهة لما يقوم به ترامب في المستقبل، مع أن الاستثناء حتى هذه اللحظة هو وجود شخصية مثل إيلون ماسك، الذي أصبح يقلّد ترامب في أقواله وأفعاله، ولن نفاجأ مستقبلاً إن رأينا ترامب جديداً، لكن بهيئة الملياردير ماسك. كذلك والأكثر أهميةً، أنه لم توجد إمبراطورية في عصرنا الحديث استطاعت المحافظة على تفوّقها وتمدّدها من دون تبنّي قوة ناعمة وتجسيدها أحدَ أركان الحكم والسيطرة على العالم كما ينبغي، وهو ما أسقطه ترامب بشكل مكشوف. وعليه، تشكل السياسة القائمة على القوة الصلبة، والمجرّدة من القوة الناعمة، الخطوة الأولى تجاه تراجع الدور الأميركي في قيادة النظام الدولي، وتراجع الترامبية السياسية على المستوى البعيد.

