هل تُصدّق إسرائيل أنّها تخوض حرباً في غزّة؟

11 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 02:50 (توقيت القدس)
+ الخط -

استمع إلى المقال:

يحار المتابعون والمحلّلون في تفسير فائض الوحشية الإسرائيلية في حربها المعلنة على الفلسطينيين في قطاع غزّة، التي تريد من خلالها "نصراً مطلقاً" على الفلسطينيين، فإسرائيل تحطّم، في ادّعاءاتها، مفهومي الحرب والنصر في الحروب، كما عُرفا في التاريخ.

تدور الحروب بين طرفين يملكان قوات قادرة على ضرب بعضها، حتى لو اختلفت واختلت موازين القوى بين الطرفين. لكن على الأقل، أن يملك الطرف الضعيف حدّاً أدنى من القوة العسكرية قادرة على تشكيل خطر الهزيمة على الطرف الآخر، مهما كان الخطر ضئيلاً، بذلك يمكن اعتبار ما يجري حرباً بين طرفين، فلا يمكن اعتبار الصراع بين الفيل والنملة حرباً، فهي في الحقيقة عملية إبادة، وهذا ما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة.

ما هو النصر سوى تحطيم قدرة العدو على تشكيل خطرٍ حقيقي على الطرف المنتصر، والفلسطينيون لم يشكّلوا خطراً حقيقيّاً منذ تأسيس دولة إسرائيل، بل على مدار أكثر من قرن شكّلت إسرائيل خطراً على الفلسطينيين. ويبدو أن القصد الإسرائيلي من "النصر المطلق" الذي يتحدّث عنه رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هو استسلام الفلسطينيين للخطط الإسرائيلية، حتى آخر طفل فلسطيني، وعليهم أن يغيبوا عن الخريطة، باختفائهم. ولا يشمل هذا الموقف الإبادي القادة الإسرائيليين فحسب، بل الشعب الإسرائيلي أيضاً، فلا يمكن فهم أنَّ 82% من الإسرائيليين يريدون طرد الفلسطينيين من أرضهم، سوى باستشراء رغبة الانتقام الدموي بالإبادة الجماعية للشعب الذي قامت إسرائيل على أنقاض وطنه.

لا يمكن تحليل ما يجري من جرائم حرب في قطاع غزّة، منذ أكثر من 20 شهراً بمفردات التحليل العسكري، وما الكلام العسكري عن عمليات عسكرية داخل قطاع غزّة، وتسميات تمجيدية إسرائيلية للجرائم المُرتكبة في القطاع، تحت عناوين كبيرة، مثل "الرصاص المصبوب" و"السيوف الحديدية" و"عربات جدعون"، وغيرها من التسميات التي توحي بأنهم يقاتلون جيوشاً جرّارة، ما هي إلّا إيهام الذات الإسرائيلية المتضخمة والمجروحة بفعل عملية طوفان الأقصى التي كانت فشلاً إسرائيليّاً بفعل تضخّم هذه الذات والقناعة بأنها دولة عصيّة ومنيعة على المساس بها، أكثر منها نجاحاً فلسطينياً، لأنهم يملكون قوة عسكرية حقيقية تشكل خطراً حقيقياً إباديّاً للإسرائيليين، ويملكون القدرة على تدمير إسرائيل، كما ادّعى ويدّعي الخطاب الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر (2023) بأن ما يقوم به الجيش مهمة عسكرية ضدّ قوة عسكرية تعمل على تدمير إسرائيل. وقد تواطأ العالم مع إسرائيل على هذه السردية، للتغطية على الجرائم الإسرائيلية، على اعتبار أنّ حركة حماس تشكّل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وهو ما يَمنح إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، والتي فهمت الدفاع عن النفس إبادة الفلسطينيين وطردهم من أرضهم إلى أي مكان آخر في العالم، على ألّا يبقوا في منازلهم. وجاء اقتراح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ترحيل الفلسطينيين وتحويل القطاع إلى "ريفييرا" المنطقة، ليعطي الموقف الأميركي دعماً لفكرة الطرد الإسرائيلية. وكأنّ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي بدأ مع "طوفان الأقصى".

للخطاب الإبادي وللسلوك الوحشي الإسرائيلي وظيفة سياسية، تتمثل أساساً، في إلغاء المعادلة التي قامت عليها دعواتُ التسوية

أسس خطاب المسؤولين الإسرائيليين ضدّ الفلسطينيين بوصفهم "حيوانات" و"حيوانات متوحشة"، وغيرها من توصيفات مرذولة لتصغير الفلسطينيين لحرب إبادة ضدّهم. ولم يبرّر هذا الخطاب الإبادة فقط، بل أسّس لها عبر استخدام كل الآلة العسكرية الإسرائيلية، التي عملت وتعمل على تدمير غزّة، وجعلها مكاناً غير صالح للعيش البشري، فلا يمكن استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية، إذا جرى التعامل مع الفلسطينيين الذين يقطنون قطاع غزّة بوصفهم أناساً مسالمين، وهناك من بينهم من يحاول إيذاء إسرائيل. ويلغي هذا التوصيف واقع الحال في قطاع غزّة كل الأسس التي بنت عليها إسرائيل حربها الوحشية، لذلك كان من الضروري لإسرائيل هندسة خطابٍ يبرّر وحشية هذه الحرب، ولم يرَ قادة إسرائيل أفضل من خطاب الضحية التي تدافع عن نفسها ضد "حيوانات بشرية" تعمل على تدمير دولة إسرائيل الملجأ الأخير لليهود الذين تعرّضوا لحرب إبادة، تتكرّر أمامهم، وليس أمامهم من خيار، سوى إبادة هذه الخطر، والانتصار عليه "نصراً مطلقاً".

إذا أردنا تلخيص الخطاب الإسرائيلي، فهو يدّعي أن إسرائيل دولة مسالمة، لم تعتدِ خلال تاريخها الحديث على أحد. فجأة، اقتحم جيرانها المتوحشون حدودها، وشرعوا في قتل مواطنيها لتدميرها. وليس هناك خيار أمامها سوى استخدام جيش الدفاع الذي أعدّته من أجل الدفاع عن بلدها المسالم، في وجه اجتياح المتوحّشين إسرائيل، التي لن تأمن في المرّات المقبلة، من دون "النصر المطلق" وإبادة المعتدي.

واقع لا يرى الفلسطينيين، ويريد تغييبهم عن الخريطة، كما فعل في 1948، يؤسّس لإسرائيل أكبر

مهما كان الموقف من عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس (كاتب هذه السطور ليس من مؤيدي العملية) حتى بالإدانة المطلقة لها، قتلت مدنيين إسرائيليين وأخذت آخرين رهائن إلى قطاع غزّة، فإن هذا لن يجعلها الأساس المكوّن للصراع على الأرض الفلسطينية. وبعيداً عن خطاب النصر الذي تصرُّ عليه "حماس"، رغم كل الدمار والقتل الذي حلَّ بأهالي القطاع، فإن للخطاب الإبادي وللسلوك الوحشي الإسرائيلي وظيفة سياسية، تتمثل أساساً، في إلغاء المعادلة التي قامت عليها دعواتُ التسوية، وفي مقدمتها الدعوة الأميركية إلى تسوية الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أساس حل الدولتين.

فخلال تاريخ الصراع، استطاعت إسرائيل نقل الصراع من موقع إلى آخر بفرض وقائع على الأرض من خلال القوة العسكرية. فحتى عام 1967 كان الصراع يجري على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1948، فقد أعطى قرار التقسيم الدولة اليهودية 56% من مساحة فلسطين، لكنها احتلت 76% من مساحة فلسطين نتيجة الحرب. وبعد حرب 1967 احتلت ما تبقى من فلسطين وأجزاء من دول عربية، قطاع غزّة وسيناء من مصر، والجولان من سورية، والضفة الغربية من الأردن. وبذلك استطاعت أن تنقل أساس التسوية إلى قرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 و338 لعام 1973، أي أصبح أساس التسوية مع العالم العربي احتلال 1967.

اليوم، في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على أهالي القطاع، والتي ستتمدّد، بشكل أو بآخر، لتشمل الضفة الغربية، ستعمل إسرائيل على تحطيم الواقع السياسي الذي فرضه احتلال 1967 لإقامة واقع جديد، لا يؤسّس لأي تسوية، لا على أساس معطيات حرب 1967 ولا على غيرها، واقع لا يرى الفلسطينيين، ويريد تغييبهم عن الخريطة، كما فعل في 1948، يؤسّس لإسرائيل أكبر.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.