هل تكره فرنسا فرانز فانون؟

27 ابريل 2025
+ الخط -

ربما ما كنّا سنسمع بجزر المارتنيك لولا أنّ المفكر والطبيب النفساني الشهير فرانز فانون ولد فيها عام 1925. ما أكثر البلدان التي أكسبتها الشهرة أسماء كبيرة تنتسب إليها، ومنها المارتنيك في شرق البحر الكاريبي، وتعتبر أحد الأقاليم الستة والعشرين المكوّنة للأراضي الفرنسية. وعلى ذمّة "ويكيبيديا"، أغلب سكان المارتنيك من الأفارقة الذين جلبوا إلى الجزيرة للعمل في مزارع السكر خلال الحقبة الاستعمارية، فيما البيض 5% من السكّان، أغلبهم من الفرنسيين والإسبان، والهنود الحمر (الكاريب)، وهناك أقليات هندية، وإليها هاجر أيضاً سريان من لبنان وسورية.

في هذه الجزيرة، وُلد فرانز فانون في عائلة متوسطة الحال، كان أبوه مفتّشا في الجمارك وأمه صاحبة محل تجاري، وفي 1943، التحق بجيش "فرنسا الحرّة" بقيادة الجنرال ديغول لتحرير فرنسا من النازية، مدفوعاً بحماسه ووطنيّته، إلا أنّه عانى من العنصرية بسبب بشرته السوداء. وبعد الحرب، عاد إلى مسقط رأسه وأكمل دراسته الثانوية، قبل أن تحمله منحة دراسية إلى مدينة ليون لدراسة الطب، حيث تخصّص في الطب النفسي، وفي الوقت نفسه، تابع دروساً في الأدب والفلسفة.

نشر في عام 1952 كتابه الأول "بشرة سوداء... أقنعة بيضاء"، المستند إلى أطروحته في الطب النفسي. تناول فيه قضايا الهوية والاندماج والعنصرية ضد السود، انطلاقاً من تجربته إفريقياً كاريبياً يعيش في فرنسا، وبعدها بعام أوكلت إليه رئاسة قسم الطب النفسي في مستشفى مدينة البليدة في الجزائر، وهناك عايش آثار القمع النفسي على الجزائريين، واخترع أساليب جديدة لمعالجة الأعراض النفسية الناتجة عن الاستعمار، مثل فقدان الهوية وتجريد الإنسان من إنسانيته. صار يعالج الجنود الفرنسيين في النهار والمناضلين الجزائريين الجرحى ليلاً. وفي 1956 استقال من منصبه الطبي، وانضمّ إلى صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لتطرده السلطات الفرنسية إلى تونس بعد أسابيع، فأصبح ممثلاً للثورة الجزائرية في دول إفريقية عديدة.

لم يعش فانون طويلاً، فقد أصيب مبكراً بمرض مرض سرطان الدم (اللوكيميا)، وتوفي في 1961 عن عمر لم يتعدّ 36 عاماً، ولم يدرك استقلال الجزائر الذي ناضل من أجله، ولكنّه دفن فيها وفق وصيّته قرب مدينة عنابة (شرق). وعلى الرغم من عمره القصير، وضع فانون بضعة كتب مهمّة، فبالإضافة إلى "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء"، كتب "معذّبو الأرض"، كما ترجم العنوان إلى العربية سامي الدروبي وجمال الأتاسي، اللذان فضّلا "معذّبو الأرض" على "ملعونو الأرض" التي قد تكون أقرب إلى ما رآه فانون.

في هذا الكتاب، الذي كتب الفيلسوف جان بول سارتر مقدّمته، خصص فانون فصلاً لما ندعوه الثقافة القوميّة أو الوطنيّة، حلل فيه العلاقة المعقدة من أوجهها المختلفة بين الاستعمار والشعوب التي استعمرها، ما يجعل العودة إلى فانون ضروريّة اليوم، فهناك من يريد شطب الثقافات الوطنيّة والقوميّة على مدار القارات المختلفة بما تختزنه من ثراء وخصوبة وتنوّع لا متناه، إمعاناً منه في التماهي مع ما بتنا نعرفه بالعولمة الثقافية، التي تسعى إلى تغليب نموذج واحد يظلّ فقيراً بالقياس للكمّ الهائل من النماذج التي تدبّ فيها دماء الحياة في مناطق الكوكب المختلفة.

لاحظ الباحث المغربي يحيى بن الوليد، في دراسته "إدوارد سعيد مستعيداً فرانز فانون"، أنّه على الرغم من التكوين اللغوي والثقافي الفرنسي لفانون، هو الذي قاتل في جيشها الحرّ ضد النازية، فإنّ "أكثر الكتب عنه، سيرةً وتحليلاً، بالإنجليزية وليس بالفرنسية"، مُرجعاّ ذلك إلى "ميراث فرنسا الكولونيالي الثقيل وما نجم عنه من حروب ذاكراتية".

وعلى موقع "فرانس برس"، نطالع تقريراً حديثاً ينقل فيه معدّه، طاهر هاني، تساؤلاً طرحته صحيفة ليبراسيون الفرنسية عما إذا كانت قاعات السينما الفرنسية قاطعت فيلماً يروي قصة حياة فرانز فانون، عرض في بداية إبريل/ نيسان الجاري، إذ لم يعرض إلا في عدد محدود من قاعات السينما قياساً إلى الأفلام الأخرى، إلى درجةٍ حملت مسؤول الإنتاج الفني للفيلم على الاستغراب من "سبب هذه المقاطعة"، مضيفاً "كل فيلم عرضناه للمرّة الأولى كانت القاعة ممتلئة"، وخلص التقرير إلى أنّ اسم فانون وحياته مجهولان في فرنسا، إلا في بعض الأوساط الشيوعية والمدافعين عن الثقافة الزنجية السوداء. أترى ذلك نتاج "الحروب الذاكرتية" إياها؟

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.