هل تقول العدالة كلمتها في "الانقلابي" ترامب؟

هل تقول العدالة كلمتها في "الانقلابي" ترامب؟

09 يناير 2021
+ الخط -

انقلابٌ على مرأى من الجميع، بثت الشاشات وقائعه لحظة بلحظة... كان ذلك أبرز ما في مشهد يوم المصادقة على نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية التي فاز فيها جو بايدن بـ 306 مقابل 232 صوتا من المجمع الانتخابي للرئيس المنصرف دونالد ترامب. أتى وصف ما جرى بالانقلاب من مشرّعين، منهم النائب الديمقراطي، وليام باسكريل، الذي غرّد "نشهد محاولة انقلاب بتشجيع من مجرم البيت الأبيض. لكنّ المحاولة محكوم عليها بالفشل". فيما قالت النائبة ديانا ديغيتي "هذه ليست تظاهرة، إنها محاولة انقلاب". ووصف زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل، ما جرى الأربعاء، في مقابلة مع "فوكس نيوز"، إن الاحتجاجات في مبنى الكونغرس "لا تمت لأميركا بصلة".
كانت موجة البلطجة التي شهدتها واشنطن متوقعة، إذ سبق لترامب أن توعد بالزحف على الكونغرس "من أجل عمل السليم"، والسليم هو بالضبط غير السليم: الانقضاض على نتائج الاقتراع، وترهيب المشرّعين، وتخريب الأجواء في بيت التشريع الذي وصفه الرئيس المنتخب بايدن بأنه قلعة الحرية... أما المحرّض على هذه الارتكابات فهو ترامب الذي يضع نفسه الآن امام سلطة القانون، وفي مواجهتها وتحت طائلتها. وكان نائب الرئيس مايك بنس قد رفض الاعتراض على نتائج التصويت، وهو ما يملكه أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، أما دوره فاحتفالي كما قال. وبُعيد الإدلاء بأقواله هذه، ومع تمكّن أفراد من مليشيات اليمين المتطرّف المؤيد لترامب من اقتحام الكونغرس، فقد خرج نائب الرئيس بأمانٍ من المبنى، وصرّح بأن القانون سوف يطاول المقتحمين، وهي الصفعة الثانية خلال 24 ساعة التي يوجهها بنس لرئيسه، وذلك باعتبار الأخير محرّضاً على اقتحام الكونغرس. ولا ريب أنه قد دار في خُلد ترامب إقالة نائبه بنس من موقعه، وبما أن ذلك غير ممكن دستوريا وقانونيا، فسوف يصبح هذا الرجل هدفا لتفوّهات رئيسه، بعد أن ارتضى أن يكون نائبا له. وبموازاة ذلك، كان الديمقراطيون ينتزعون الأغلبية في مجلس الشيوخ من الجمهوريين، بعد أن ملأوا مقعدين عن ولاية جورجيا، فيما كانت أجواء الادعاء العام في الولاية تحقق في مكالمة لترامب مع سكرتير الولاية، سعى خلالها إلى تغيير نتيجة الانتخابات.

وُصف ترامب بأنه ليس على سوية نفسية، وأنه يشكو من نرجسية خاصة، تجعله ينظر بافتتان شديد إلى نفسه

كان من شأن جملة الوقائع هذه (لو تعلقت بشخص مندفع لكنه يتمتع بحد أدنى من الاتزان أو السلامة النفسية) أن تجعل الرئيس يرعوي، ويتوقف عن معاندة الحقائق، غير أن العزّة بالإثم أخذت هذا الشخص الذي لا يتوقف عن ارتكاب الأخطاء الجسيمة. والحال أنه قد أباح لنفسه اقتراف جملة مخالفاتٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ بتصرّفاتٍ ممجوجةٍ تجافي الذوق السليم، ولا تمتّ بصلةٍ لأميركا الداخلية التي تفخر بإنفاذها القوانين وبتقيدها بالدستور، من دون أن تكون أجسام السلطة، بالضرورة، على درجةٍ عالية من النزاهة والموضوعية. ولا شك أن الأميركيين قد عاينوا بأنفسهم، في ساعات حظر التجوّل، الخطر الذي يحيق بنظامهم السياسي الذي ارتضوه، وذلك عبر انتهاك أقدس المؤسسات الدستورية، وإعاقتها عن عملها، إذ تم بالفعل فض جلسة التصديق المشتركة التي جمعت مجلسي النواب والشيوخ على نتائج الانتخابات. على وقع الاقتحام، وانتشار أدخنة قنابل الغاز المسيل للدموع، قبل أن يستحوذ الحرس الوطني على مباني الكونغرس، ثم يتاح للمشرّعين الاجتماع مجدّدا، أول من أمس الخميس 7 يناير/ كانون الثاني، لاستئناف المصادقة على النتائج، وقد صادقوا بالفعل عليها، بما جعل من بايدن رئيسا بصورة رسمية.
الوقائع التي جرت أذهلت الأميركيين، وأذهلت معهم الغرب، الليبرالي. فيما ظلت الآمال تساور اليمين الشعبوي المتطرّف، كالذي يمثله بنيامين نتنياهو في إسرائيل وفلاديمير بوتين في روسيا وجايير بولسونارو في البرازيل، في أن تقع معجزة في الساعات الأخيرة، ويتم إبطال فوز بايدن بالرئاسة الأميركية، وذلك جريا على إيمان هؤلاء، ومن يشاكلهم، بالمؤامرات والمعجزات والسحر السياسي والشخصي للزعماء الملهمين، ومنهم مطوّر العقارات، دونالد ترامب، الذي وصف فترته الرئاسية بأنها "أعظم فترة رئاسية في تاريخ أميركا".

سبق لترامب أن توعد بالزحف على الكونغرس "من أجل عمل السليم"، والسليم هو بالضبط غير السليم: الانقضاض على نتائج الاقتراع

وأمام هذه التطورات الدراماتيكية، فإن في الوسع تصوّر إنتاج أشرطة سينمائية ومسلسلات تلفزية عن الرئيس "الأعجوبة"، غير أن ذلك لن يكون كافيا لمحو خطايا هذا الرجل وعبثه بتقاليد الحياة المهنية في أرفع المناصب، وبسنن الاحترام المتبادل بين البشر. ولئن وصف بأنه ليس على سوية نفسية، وأنه يشكو من نرجسية خاصة، تجعله ينظر بافتتان شديد إلى نفسه، لا على أنه إنسان مميز، بل على أنه "شيء جميل"، فإن ذلك، على أهميته، لن يكون كافيا لمعالجة الندوب العميقة التي تركها في الإدارة العامة، وفي العلاقة مع القضاء ووسائل الإعلام، علاوة على تلطيخه صورة بلاده، علماً أنها ليست صورة زاهية ناصعة، ولا هي داكنةٌ منفرّة، إذ تختلط فيها النقائض، فيجد فيها مناصرو النظام السياسي وخصومه، كما المحايدون، كل ما يرغبون برؤيته، ويشهد على حصافة نظرتهم. ولسوف يكون منطقيا ومتوقعاً أن ترفع دعاوى قضائية من أطراف متعدّدة ضد هذا الرجل، وأن تتولى العدالة إصدار الأحكام عليه في الشهور والسنين المقبلة، وأن يعاد الاعتبار لأشخاص ومسؤولين تمت الإساءة إليهم بصورة متقصدة من هذا الشخص، وذلك حتى لا تتكرّر حقبة ترامب مستقبلا، عبر وجوهٍ أخرى. 
وفي أجواء من تفعيل مقتضيات العدالة بحقّه، فإنه سوف يكون ممكنا تفحّص بعض قراراته السياسية، وإعادة تصنيفها، في ضوء ملابسات شخصيته، ومنها على الخصوص قراراته ضد مواطني بلدان إسلامية، وصفقته التي حملت اسمه، والتي أريد بها منح اليمين الاستيطاني في دولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر مما يريد. مع الأخذ في الاعتبار أنه اتخذ قراراتٍ قبل الإعلان عن الصفقة، وبعد الإعلان عنها، وكانت، في واقع الحال، جزءا من الصفقة بين الجناح الشعبوي المتطرّف في الحزب الجمهوري الأميركي، ممثلا بترامب، وتكتل الاستيطان والعنصرية الليكودي، ممثلا بنتنياهو.