هل تعيد نيبال سيناريو الربيع العربي؟
حشد من النيباليين في احتجاج قرب البرلمان في العاصمة كاتماندو (8/9/2025 Getty)
لم يسبق لنيبال أن كانت خبراً عاجلاً في نشرات الأخبار السياسية. البلد (الفقير) الجميل الذي يقصده السياح من أجل التأمّل وتسلق قمم الهيمالايا، حيث الضباب يغمر معابد كاتماندو، وجد نفسه فجأةً وقد كسر صمت السياسة، فما أن حاولت الحكومة ضبط الفضاء الرقمي بحجّة مخالفة منصّات كبرى قواعد التسجيل، والسعي إلى ضبط المحتوى، والحدِّ من الحسابات الوهمية وخطاب الكراهية والاحتيال، حتى نزل آلاف الشبّان إلى الشوارع، فلم يمرّ ذلك الإجراء الحكومي مجرّد خطوة تقنية بالنسبة لجيل نيبالي كامل نشأ نصفُه تقريباً في الفضاء الرقمي، في بلدٍ ضاقت فيه فرص العمل واتسعت فيه دوائر الفساد، ويرزح منذ سنوات طويلة تحت فقر مدقع، والخدمات العامّة فيه شبه مشلولة. أمّا البطالة فأنهكت الشباب الذين حرمهم قرار الحجب من فرص عمل توفّرها "السوشيال ميديا"، ومن حقّهم في التعبير عن آرائهم، والتواصل مع الخارج. أُغلقت النافذة فانفجر الغضب، ووسّع الاقتصادُ الهشّ وقمعُ الشرطة المتظاهرين وسقوطُ قتلى القاعدةَ الاجتماعية للاحتجاجات لتتحوّل انتفاضةً شاملةً ضدّ الحكومة.
ارتفع سقف المطالب، واستقال رئيس الوزراء تحت ضغط الشارع الذي طارد المسؤولين الحكوميين وألقى بهم في الأنهار، لتدخل نيبال مرحلةً انتقاليةً من حكومة مؤقّتة وانتخابات مقرّرة في مارس/ آذار 2026، ورُفع الحظر عن وسائل التواصل الاجتماعي، وعُيّنت سوشيلا كاركي (القاضية السابقة في المحكمة العليا) رئيسة وزراء مؤقّتة (أول امرأة نيبالية في هذا المنصب)، وهو ما قوبل باستحسان الشارع النيبالي لسجلّها النظيف في مكافحة الفساد... هكذا أعاد الجيش فرض النظام، ثمّ جلس إلى طاولة المفاوضات السياسية ليطرح أسماء الحكومة الانتقالية في مشهد مألوف رأيناه في عواصم سابقة، مستمدّاً شرعيته من الفوضى، والمباني الحكومية المحترقة في كاتماندو، ومن العجز السياسي الحكومي أمام الجيل "Z" الغاضب، لكن هل سيكتفي بدور الضامن حتى انتخابات مارس، أم يستسلم لإغراء السلطة ويعيد إنتاج نظام قديم بوجه جديد؟
ما يحدث في نيبال ليس بعيداً من وجداننا العربي، هنا حيث يلتقي الفقر بالاستبداد، والجوع بكاتم الصوت، وقد اختبرنا "الصمت مقابل الخبز" و"الأمن مقابل التنازل عن الحرية"، لكنّها سياسات لم تمنع انفجار الغضب الشعبي من تونس إلى بغداد، وإن كانت الأماني أن تمضي نيبال نحو استقرار بعد انتفاضتها الشعبية، إلّا أن هناك خشية أنها على أبواب فوضى تشبه ما عرفه العالم العربي بعد "ربيع" لم يكتمل، إذ تعلّمنا دروس "الربيع العربي" أن ثورات بلا رأس، ولا تحمل برنامجاً سياسياً واضحاً، تترك فراغاً يملأه الجيش أو المليشيات أو القوى التقليدية، وما يحدث في نيبال اليوم يشي بشيء مشابه، انتفاضة عفوية بلا قيادة، وغضب شعبي يطالب بالحرية، وجيش يتحرّك حكماً بين الجميع. في تونس 2011، حافظ الجيش على مسافة من السلطة ورفض إطلاق النار على المتظاهرين، ثمّ انسحب سريعاً ليترك المجال لعملية سياسية. أمّا في مصر، فظهر الجيش منقذاً بعد سقوط حسني مبارك، لكنّه سرعان ما أمسك بخيوط المرحلة الانتقالية ليصبح حاكماً فعلياً بواجهة مدنية، فهل يميل جيش نيبال إلى مسار يشبه تونس، فيكون جسر عبور إلى الديمقراطية (رغم تعثّر المسار بعد انقلاب قيس سعيّد)، أم ينزلق إلى السيناريو المصري، فيتحول حاكماً مطلقاً تحت غطاء الانتقالية؟
لا يزال جيش نيبال في المنطقة الرمادية، بين النموذجَين المصري والتونسي، لم ينسحب تماماً كما في تونس، ولا هو حاضر بقوة كما في مصر، لكنّه لاعب سياسي رئيس يملأ مؤقتاً فراغ الشرعية المدنية العاجزة عن إدارة غضب الشارع، لكن إن بقي يتحكّم بالخيوط من دون قيادة مدنية واضحة، فالأمر قد ينزلق نحو نوع من استبداد مؤقّت أو دولة أمنية تركّز في النظام والقوة أكثر من الحقوق والمطالب الشعبية. عاملان قد يحقّقان الفرق، قدرة الشارع وجيل الشباب على تنظيم أنفسهم سياسياً بدل الاكتفاء بالغضب، ومدى استعداد الجيش للقبول بوظيفة حماية الاستقرار لا إدارة الحكم. لن تكفي إصلاحات مؤقتة تهدئ الأجواء قبل أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه، إذ تحتاج نيبال إلى برنامج سياسي واضح يقضي على الفساد والمحسوبية وضعف الفرص الاقتصادية، وإلّا قد يصبح الجيش اللاعب الأكبر، وربّما الرابح الوحيد.