هل تتحالف إسرائيل مع الصين بدل أميركا؟

هل تتحالف إسرائيل مع الصين بدل أميركا؟

28 يناير 2022

نائب الرئيس الصيني ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو في القدس (24/10/2018/فرانس برس)

+ الخط -

في وقتٍ يشهد حقل العلاقات الدولية نقاشات كبيرة بشأن التغيرات في بنية النظام الدولي، بفعل الصعود الصيني وتراجع الدور الأميركي عالمياً، تتعمّق العلاقات الإسرائيلية - الصينية في المجالين، الثقافي والاقتصادي، بشكل أساسي، بما يؤشّر بالضرورة على تنامي علاقات استراتيجية طويلة الأمد بين الطرفين. أثار تنوع هذه العلاقات وتعمقها مخاوف الولايات المتحدة، وتعرّضت إسرائيل للنقد من مفكرين وسياسيين في واشنطن. يطرح هذا كله السؤال: هل تحاول إسرائيل استباق الأحداث وإنشاء قوة وتأثير لها في الداخل الصيني، في حال تحقيق الصين حلمها بأن تصبح القوة العظمى في العالم بحلول منتصف القرن الحالي (العام 2050)، بحسب "الرؤية الصينية" التي تتبناها الدولة والحزب؟ يعيد هذا السؤال فتح النقاش بشأن العلاقة التاريخية بين الحركة الصهيونية والقوى العظمى، حيث سعت الأولى، باستمرار، إلى الانتقال من حضن قوة عظمى تنهار إلى أخرى تصعد.

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت ألمانيا أحد أهم مراكز الثقل لنشاط الحركة الصهيونية، إذ احتل اليهود الألمان موقعاً مؤثراً في قلب الفكرة الصهيونية، وعملوا، أساساً، على تعزيز الثقافة اليهودية في الداخل الألماني، وكانت مدينة ميونخ مرشّحة لاحتضان المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. ولكن بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، سرعان ما نقلت الصهيونية مركز ثقلها إلى بريطانيا، وانتقل المجلس التنفيذي للمنظمة الصهيونية إلى لندن. وعلى الرغم من أن بريطانيا كانت في مرحلة تراجعها قوةً عالمية، إلا أنها كانت الأقوى فيما بين الدول الأوروبية آنذاك. وفي ما يخصّ الولايات المتحدة، التي كانت في ذروة صعودها وقوتها، فقد انتهجت سياسة الانعزال بعد الحرب، فلم يكن لديها اهتمام في ما يحدث خارج حدودها الجغرافية. وفي 1917، بفعل دور الحركة الصهيونية، أصدرت الحكومة البريطانية تصريح بلفور لليهود، وبقيت الدولة الراعية لمشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين ثلاثة عقود.

انتقال الصهيونية من ركاب قوة عظمى إلى أخرى لا يأتي بعد الانهيار الكامل للقوة العظمى، بل في مرحلة التغير والتحوّل في النظام الدولي

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، خرجت بريطانيا من معادلات القوة في بنية النظام الدولي، وتولّت الولايات المتحدة قيادة العالم الغربي، متخلية بذلك عن سياسة الانعزال التي انتهجتها بين الحربين. بدأ التحضير الصهيوني للانتقال الثاني واستغلال التغيرات في توزيع القوة في النظام الدولي لمصلحة الولايات المتحدة في خضمّ الحرب العالمية الثانية، وتمثلت نقطة الانعطاف الصهيوني نحو أميركا بانعقاد مؤتمر بالتيمور في نيويورك سنة 1942. نلحظُ أن انتقال الصهيونية من ركاب قوة عظمى إلى أخرى لا يأتي بعد الانهيار الكامل للقوة العظمى، بل في مرحلة التغير والتحوّل في النظام الدولي، إذ تبدأ الحركة بلعب أدوارٍ نشطة في الدولة الأقوى المحتملة. استخدمت الحركة الصهيونية في داخل الولايات المتحدة أدواتها الثقافية، واستغلت الهولوكست، وتعزيز أهمية الشرق الأوسط في الفكر السياسي الأميركي، للتأثير في صناع القرار من أجل تبنّي قيام الدولة الإسرائيلية ودعمها. وأنتج ذلك، كما نعلم، الاعتراف الفوري بإسرائيل، الذي أعلنه الرئيس الأميركي، هاري ترومان، بعد 11 دقيقة من إعلان "استقلال إسرائيل". منذ ذلك التاريخ، أصبحت الولايات المتحدة الراعي الأول في العالم للصهيونية ومشروعها الدولة الإسرائيلية.

اليوم، يمكن القول إنّ الصعود الصيني هو الحدث الأوحد الذي سيغيّر موازين القوى في القرن الحادي والعشرين، فعليه يكون السؤال، في ضوء سيرورات الانتقال والاستبدال: هل تسعى الحركة الصهيونية ممثلةً بمشروع دولتها "إسرائيل" للدخول في مرحلة الانتقال الثالث تدريجاً نحو الصين؟ بدأت الحركة الصهيونية الظهور في الصين في بدايات القرن الماضي. وكانت إسرائيل الدولة الأولى في الشرق الأوسط التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية عام 1950. وتعزز الوجود اليهودي فيها بعد لجوء ما يقارب عشرين ألف يهودي إليها فترة الحرب العالمية الثانية، ولكن لم تشهد الساحة الصينية نشاطاً واضحاً للحركة الصهيونية إلا بعد تبنّي دينغ شياو بينغ سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978. قبل هذا التاريخ، وفي سياق الصراع بين المعسكرين، الشرقي والغربي، اعتبرت الصين إسرائيل أداة للإمبريالية الأميركية في العالم، ودعمت منظمة التحرير الفلسطينية بالمال والسلاح في مواجهتها. ولكن مع إصلاحات دينغ، تخلّت الصين عن الفكر الأيديولوجي في سياستها الخارجية، وأصبحت الاستراتيجية الصينية براغماتية، تتناسب مع مصالحها في النظام الدولي. بعد انفتاح الصين على الغرب، وخصوصاً أميركا، وانضمامها إلى الأمم المتحدة، والحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، انحصر دورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على دعم الجانب الفلسطيني على الصعيد الأممي معنوياً، وإدانة العدوان الإسرائيلي خطابياً.

الصعود الصيني هو الحدث الأوحد الذي سيغيّر موازين القوى في القرن الحادي والعشرين

كيف استغلت الصهيونية هذا التحوّل؟ بعد إعلان سياسة الانفتاح الصينية، قام رجل الأعمال اليهودي، شاؤول أيزنبرغ، الذي انتقل مع عائلته في الحرب العالمية الثانية إلى الصين، بتسهيل عقد صفقات سلاح سرّية بين وزارة الدفاع الإسرائيلية والصين، ما يعني أن الحركة الصهيونية بدأت نشاطها في الصين قبل 14 عاماً من تطبيع العلاقات رسمياً بين البلدين عام 1992. اعتمدت اسرائيل استراتيجيتها الثقافية في الانتقال من مركز إلى آخر (كما أشير سابقاً). ولتعزيز وجودها وبدء العمل للحصول على الدعم السياسي المستقبلي في الداخل الصيني، رسخت إسرائيل حضورها في مجالات عديدة، الثقافية والعلمية. وفي الفترة التي أعقبت تطبيع العلاقات وحتى عام 2014، سجّلت 283 براءة اختراع في الصين. وفي السنوات العشر الماضية، شهدت الصين بناء الجامعات الإسرائيلية وافتتاحها أربعة فروع لها في الصين: جامعة تل أبيب، وجامعة حيفا، والتخنيون (المعهد الإسرائيلي للتكنولوجيا، وهي أول جامعة إسرائيلية في الصين وواحدة من جامعتين أجنبيتين فقط سمح لها بتأسيس برنامج مستقل بعد جامعة موسكو)، وجامعة بن غوريون. كذلك وُقِّع اتفاق يهدف إلى تأسيس تحالف بين الجامعات في البلدين عام 2015 خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، الصين مع نائب رئيس الوزراء الصيني، ليو يان دونغ، الذي عُرف باسم "خطة العمل الثلاثية للتعاون الابتكاري بين الصين وإسرائيل".

أدّى هذا المجهود الثقافي للحركة الصهيونية داخل الصين، والمُعزز رسمياً من الدولة الإسرائيلية، إلى إنتاج تصوّرات إيجابية عند الصينيين، إذ عبّر سياسيون وأكاديميون صينيون عن إعجابهم بالثقافة والتقاليد اليهودية وتشابهها مع الثقافة الكونفوشوسية. ويذكّر هذا التفعيل والافتعال الثقافوي بخطابات المسيحية الصهيونية وتنظيراتها عن التماثل بين اليهودية والمسيحية وتكاملها، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة. استطاعت إسرائيل تعزيز وجودها الثقافي، ووصلت إلى المرحلة التي تتبنّى فيها الصين بنفسها دعم الثقافة اليهودية، فبالإضافة إلى ما سبق، أطلق الصينيون عام 2017 مبادرة "أسبوع إسرائيل الثقافي"، ويعتبر أول حدث ثقافي يحتفل بإسرائيل في الصين. وفي العام نفسه، أعلنت جامعة شنغهاي مشروعها الجديد في إنشاء قاعدة بيانات عن اللاجئين اليهود في الصين، تعاطفاً مع ضحايا الهولوكوست.

المفارقة في العلاقة ما بين إسرائيل والغرب، وإسرائيل والصين، أن الدول الغربية هي التي أنشأت الدولة اليهودية كجزء من مشروعها الاستعماري، ووضعت على عاتقها مسؤولية حمايتها ودعمها مادياً ومعنوياً وعسكرياً. في المقابل، وفي حالة الصين، نجد أن هناك سعياً حثيثاً ومجهودات هائلة تقوم بها إسرائيل نفسها من أجل جذب الدعم والاهتمام الصيني، وهناك محاولات لاسترضاء الصين، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة ذلك، وتكرار انتقاداتها لتنامي العلاقات بين الطرفين بشكل كبير، وخصوصاً في المجال الاقتصادي.

تعلّم بن غوريون اللغة الصينية بعد تجاوزه الستين من عمره، مقتنعاً بأن الصين ستصبح القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين

اقتصادياً، لعب رجال الأعمال اليهود أدواراً رئيسية في قيام الدولة الإسرائيلية وتأمين دعم القوى العظمى الغربية وحمايتها، وأبرزهم آل روتشيلد الذين منحتهم الحكومة البريطانية وعد بلفور، وأيزنبرغ المذكور سابقاً. اليوم، تلعب الدولة الإسرائيلية هذا الدور بشكل رئيسي في محاولاتها لاسترضاء الجانب الصيني قوة صاعدة. وهناك أدلة عديدة، أولها انضمام إسرائيل عام 2015 إلى بنك التنمية الآسيوي (AIIB)، والذي يعتبر أحد أعمدة الصعود الصيني، والشاهد الأبرز على التنافس الصيني مع الولايات المتحدة، باعتباره "بديلا" عن البنك الدولي، الأميركي المنشأ. ثانياً، وجود إسرائيل على خريطة المشروع العالمي القديم الحديث "طريق الحرير البحري"، إذ تستثمر الصين في بناء ميناءي حيفا وأسدود وإعادة ترميمهما، وهو المشروع الذي سيجعل الصين مركزاً للاقتصاد الدولي. ثالثاً، إسرائيل هي الشريك الأول للصين في قارة آسيا، والشريك الثالث في العالم بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

لم تتوقف سياسة الاسترضاء الإسرائيلية عند التعاون التكنولوجي والثقافي والاقتصادي، بل تعدّى ذلك إلى تبنّي خطابات ترى في الصين فرصة مستقبلية كبرى. على سبيل المثال، سياسياً، تعلّم رئيس الوزراء الأول لإسرائيل، ديفيد بن غوريون، اللغة الصينية بعد تجاوزه الستين من عمره، مقتنعاً بأنّ الصين ستصبح القوة العظمى في القرن الحادي والعشرين. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، العلاقات الصينية الإسرائيلية بأنها "زواج عُقد في السماء". وفي خطاب له، قال السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، مايكل أورين إن "إسرائيل تعتبر الصين فرصة". وفي السياق نفسه، وعلى الصعيد الأكاديمي، قالت الباحثة شيرا إيفرون: "من وجهة نظر الإسرائيليين، الصين بلد الفرص الجديدة". لا تتسع المساحة الموجزة هنا لعرض معطيات إضافية، لكن السؤال المهم، هل تكون الصين المحطة القادمة للتموضع الاستراتيجي الجديد للحركة الصهيونية ومشروعها الدولة الإسرائيلية؟

رزان شوامرة
رزان شوامرة
باحثة فلسطينية، طالبة دكتوراة علاقات دولية، جامعة شرق البحر المتوسط، قبرص الشمالية.