هل تأكَّد اليوم أهمية دعم المقاومة الفلسطينية؟
اتخذت نظُمٌ عربية خيار النأي عن المقاومة الفلسطينية، في ضوء الانسجام مع الموقف الأميركي الرافض للمقاومة ضدَّ دولة الاحتلال، وخصوصاً المقاومة المسلَّحة، ولأسباب تتعلَّق بمصالح تلك النُّظُم، ومخاوفها من ارتفاع أسهُم الحركات الإسلامية، التي تتقاطع مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بمرجعيِّتها الإسلامية، أو الإخوانية، وفق رؤية تلك النُّظُم. وظهر ذلك بوضوح لدى نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ودول عربية، أَهمَّها جداً، الاستنفارُ في ملاحقة جماعة الإخوان المسلمين، وأيِّ فكر سياسي يرتدُّ إليها، في سياق ثورات بعض الشعوب العربية، وما عُرِف بالربيع العربي.
وكانت هذه الخلفية سبباً مهمَّاً في مواقف مثيرة للاستغراب، لدرجة الاقتراب من دولة الاحتلال، وهي تتوِّج أعتى الأحزاب العنصرية الدينية المتطرِّفة، التي لا تقيم أدنى احترام، في فكرها، ومواقفها، ليس للفلسطينيين، فقط، بل لكل ما هو عربي، ولو لمجرَّد أنه عربي.
ولم يكن تمادي تلك الأحزاب الصهيونية الدينية والقومية المتطرِّفة ليصل إلى مركز مجمَعٍ عليه، دينيّاً ووجدانيّاً وسياسيّاً، وهو القدس والمسجد الأقصى، لجهة تكثيف انتهاكاتها وتدنيسها، تمهيداً للسيطرة عليه، وتحويله إلى معبد يهودي، لم يكن ذلك كافياً لإعادة النظر في صلاحية هذا التحالف، ومأمونيَّته، في صورة فاقعة. إنَّ خطر حماس وحركات المقاومة، وانعكاسات انتصارها، أو على الأقل، عدم انكسارها، وانكسار خيارها، أهمُّ وأَوْلى بالتبنِّي، والمحاربة؛ سياسياً، وإعلامياً، من لجْم الطموحات الاحتلالية في أبشع حالاتها، وأخطر تجليَّاتها.
بدل أنْ يدفع نتنياهو ثمنَ جرائمه في غزة، أو بعض الثمن، عاونه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قذف الكرة إلى ملعب العرب
ولذلك تُرِكت غزة، في حربها، الطاحنة، تواجه دولة مجنونة، بل إن بعض تلك النظُم كان أقرب إلى إمداد دولة الاحتلال، بما يلزمها من مؤونة، وغيرها، وهي المدعومة من أقوى دولة في العالم، أميركا، التي وقفت إلى جانبها، بكل ما تملك، من قدرات مادية، عسكرية، ومالية، وسياسية، ودولية، لجهة حمايتها، من الملاحقات الدولية، كما في الموقف الأميركي من المحكمة الجنائية الدولية.
وكانت الأصوات الكثيرة المنوِّهة بأهمية غزة وفلسطين للأمن العربي، والأمن المصري القومي، لا تلقى التقدير الكافي، اعتماداً على ما ظُنَّ أنها علاقات أثبتت فاعليتها، في ما مضى، وتفاهمات عميقة على مصلحة الطرفين في الوقوف في وجه (فكر التطرف) مفعَّلاً في الجانب العربي، ومهمَلاً، في جانب حكومة الاحتلال، التي يشغل فيها وزراء، لا يخفون عنصريتهم، ودمويتهم، مراكز مهمة.
وبدل أنْ يدفع نتنياهو ثمنَ جرائمه في غزة، أو بعض الثمن، عاونه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في قذف الكرة إلى ملعب العرب، مرة مصر والأردن، ومرة السعودية، لكي يتلافى نتنياهو، بذلك، تداعيات زلزال غزة، وليجني مفاعيل (ارتياحه) من أيِّ استحقاقات، حتى وصل إلى ما يشبه السخرية من عروض التطبيع، ولو مع دولة بحجم المملكة العربية السعودية، وما يستببعه ذلك، من فتح باب التطبيع، بعدها، مع دول عربية وإسلامية.
استراتيجيّاً، وحتى وَفْق منطلقات السلام والحلول الوسط، كان لا بد من أوراق ضغط، أو أدوات إقلاق، لقادة دولة الاحتلال، حتى لا يصابوا، وهم القابلون، بالغرور الجامح، وحتى لا يُفتَح لهم الطريق واسعاً، وقد أظهرت مواقفهم المعلنة، الأخيرة، أنْ لا حدَّ لمطامعهم.
المؤلم والغريب أن أقل المطلوب، وهو اتِّساق موقف عربي جامع على إظهار الجدية اللازمة، في مواجهة كلِّ تهديد للأمن القومي العربي، لم يعد مضموناً ولا بديهيَّاً
وهذه النظم والعرب بين خيارين: إما السماح لنتنياهو بالمُضيِّ في أهدافه ومشروعاته في غزة والضفة، وإما دعم المقاومة، أو على الأقل، ترْك معاداتها، وشيطنتها، وإغلاق المنافذ إليها، وعليها، وفي كلا الخيارين مخاطر، وقد أظهرت التطورات الأخيرة خطورة الاطمئنان الزائد إلى الاصطفاف الحاسم ضد المقاومة.
إذ مهما ظُنَّ من توافقات مصلحية بين تلك النظم وهذه الوضعية الأميركية الإسرائيلية، فإنها لن تبلغ حدَّ التماهي، وخصوصاً أن النظم العربية لا تستوي في هذه المعادلة، ندّاً مكافئاً، فالعالم لم يكن يوماً إلا متحرِّكاً، وهو اليوم بمصالحه وقيمه أشد تحرُّكاً وتقلُّباً، وهنا لا تعويل مضموناً إلا على العوامل الذاتية، ولو كانت محدودة. وحين تختار الرئاسة المصرية، مثلاً، استبقاء الدعم لفلسطين وأهلها، وقواها، فهي، حينها، لا تستند إلى رصيد المؤمنين بمركزية القضية الفلسطينية، ولكن أيضاً، إلى كل من يعاين الحالة التي أصبحت عليها دولة الاحتلال، وشهيتها للتوسُّع والاحتلال، كما يظهر في جنوب لبنان، وفي سورية.
لكن المؤلم والغريب أن أقل المطلوب، وهو اتِّساق موقف عربي جامع على إظهار الجدية اللازمة، (ونحن على موعد قريب لقمَّة عربية) في مواجهة كلِّ تهديد للأمن القومي العربي، لم يعد مضموناً ولا بديهيَّاً، فهل لا تزال بعض النظم ترى أنها أقرب، من حيث تكوينها ووجهتها، إلى دولة الاحتلال، حتى وهي تخلخل القواعد، وتنتهك الحدود التي توهَّم البعض أنها تراعيها؟
الواضح أن دولة الاحتلال تتنكَّر لكل الاتفاقات، وتصرّ على إسدال الستار على أي معنى لعملية سياسية بإعلانها الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة
ولتوضيح الصورة، يمكن استحضار تجربة السلطة الفلسطينية التي هي على النقيض من فكرة حركات المقاومة، لم يحصِّنها من تعسفات إسرائيل استجاباتُها لكل متطلبات دورها، ووفائها بالتزاماتها، من هجوم نتنياهو عليها، واتهامها بأنها تسعى لتدمير دولة إسرائيل، ولكن بأساليب مختلفة، ثم في هذه الإحراجات اليومية الخطيرة التي أحالت الضفة الغربية، ومدن السلطة الفلسطينية، إلى ساحة حرب، بأساليب منها العسكري، ومنها الاقتصادي، والمعيشي.
وفي الأخير، هذا الكيان المحتل محكوم بعيشه في هذه المنطقة، العربية، والإسلامية، المحيطة به، وهو ما يجعله غير قادر على الاستغناء عنها، إلا بأن يتضاعف اعتمادُه على الولايات المتحدة وتزيد كُلَفه، وهو في أيِّ أزمة يقع فيها تمسُّ حاجته إلى دول هذه المنطقة، وهذا ما أظهرته حربه على غزة.
والواضح أن دولة الاحتلال الآن تتنكَّر لكل الاتفاقات، وهي تصرّ على إسدال الستار على أي معنى لعملية سياسية بإعلانها الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة، كما في عزمها على تبنِّي تسمية "يهودا والسامرة"، وهي التسمية التوراتية للضفة الغربية المحتلة، وذلك بـ"تصديق ما تُسمَّى اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في دولة الاحتلال على مشروع قانون لاعتماد تسمية يهودا والسامرة، بدلاً من الضفة الغربية". وفي هذا إجهاز على فكرة الدولة الفلسطينية، حتى كفكرة للحل، ولو كان الثمن وعوداً عربية وإسلامية بالتطبيع الكامل، وليس هذا فحسب، بل الوصول في التعدِّي والاستخفاف إلى ترحيل المخاطر إلى الدول العربية، المصنَّفة معتدلة، كالسعودية، ودول عربية، مرتبطة معها في معاهدات سلام، وهي الأردن ومصر. وهنا لا يكتسب خيار المقاومة مشروعيته من الحق الطبيعي، بل تعزِّزه معطياتٌ شديدةُ الإلحاح والحيوية.