هل الدبلوماسية الجماعية إلى ضمور؟

هل الدبلوماسية الجماعية إلى ضمور؟

03 سبتمبر 2021
+ الخط -

(1)

تنقطع الوشائج الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب، فهل سمعتم صوتاً قويّاً ومهتماً من جامعة الدول العربية أو من الاتحاد الأفريقي؟. ..

بعد الحربين العالميتين، وما سبّبتاه من دمار شامل، دفعت البشرية خلاله أثمانا باهظة، ثم جنحت نحو تعاون أوثق، وتضامن أكيد، إذ توافقتْ الحكومات والبلدان على مواثيق ومعاهدات واتفاقيات أمميّة شتى، قصد توفير ضمانات السّلم والاستقرار في العالم. برزتْ بعدها مفاهيم المجتمع الدولي شكلاً يعزّز هذه الالتزامات الدولية، ويرسم إطاراتها وكياناتها وأجهزتها. وعلى الرغم من ذلك كله، لم تجفّ تماما بؤر الصراعات ومكامن الاختلافات ومواقع الاحتراب، ولا تراجعت مسبّباتها التي اتصلت بتقاطعات المصالح والتسابق على بسط النفود، وملاحقة المطامع في ساحات دولية، مأهولة بكبارٍ يستخفّون بصغارها، كما يتنمّر أقوياؤها وهم قليل، بضعفائها وهمُ كثرٌ. تلك حقبة شهدَ القرنُ العشرون منازلاتها وتحدّياتها، كسباً في أحيان، وخسرانا في أكثر الأحايين. هيَ حقبة سمّوها حقبة الحرب الباردة، لكنها لم تكن حربا ساخنة مثلما تشي بذلك صفة البرودة. هي حقبة فيها الحرب الكورية، وفيها بروز المارد الصيني بعد مسيرته الطويلة. شهدت سنواتها أيضاً حروباً في الشرق الأوسط من تداعيات وعد بلفور، وحرب الأيام الستة، وحرب فيتنام، ومصارعة الدّب الرّوسي مع الكاوبوي الأميركي في مختلف بقاع العالم. أفضتْ بنا مسيرة أحوال العالم، آخر الأمر، إلى محطة الإرهاب الدولي، غير أن الحرب الباردة بقيتْ على برودها، ولم تُدخل العالم إلى حرب عالمية ثالثة، فأبقت ولم تذر.

(2)

مفتاح السلام في عالم اليوم كان ذلك الالتزام الأكيد بمقتضيات التعاون الدولي والتضامن بين الشعوب، عبر كيانات فاعلة شملتْ منظمات دولية وإقليمية، مارست دبلوماسية جماعية، تمثلت رمزيتها في وجود منظمة الأمم المحدة بكامل أجهزتها وأذرعها ولجانها المتخصّصة. تلك هي الدبلوماسية الحصيفة التي رعتها المنظمة الأمميّة، فمنحت مناعة فعّالة لمجتمعٍ دولي باتجاه الرسوخ والاستدامة، فلم تقعدها التحدّيات، وهي لا تحصى ولا تعد، ولا تقاصَر جهدها عمّا يتهدّد البشرية من مخاطر، مثل تحوّلات المناخ وتناقص الموارد الطبيعية، ومنازلة الفقر والأوبئة الفتاكة، وصولاً إلى قضايا الأرهاب الدولي ومشكلات حقوق الإنسان والحريات، وحراك المظلومين من البشر نزوحاً ولجوءاً.

ليس الاتحاد الأفريقي وحده الذي تقاصرتْ فعالية دبلوماسيته الجماعية، وكاد يقتلها الضمور، بل أيضاً البلدان العربية عبر جامعتها المُنهكة

(3)

فيما كان العالم يفتتح ألفيته الثالثة بثبات واستقرار، فقد أضافت ثورة الاتصالات والمعلوماتية أبعاداً جديدة، جعلت العالم بكامله مجرّد قرية كونية، تتأثر أطرافها بما يقع في أطرافها الأخرى، في عين الزّمان وعين المكان. حين تتحرّك الشعوبُ نشداناً لحريةٍ بعدت عنها، وتطلعاً لاقتصاديات تحقق شيئاً من الكرامة، ستجد ذلك الحراك يتمدّد إلى شعوب وبلدان أخرى، وبما يشبه المتواليات الهندسية. ربيع تتسع مواسمه تتابعاً إلى بلدان وشعوب في الشرق الأوسط، وفي أكثر من بلد عربي. مواسم ربيع سياسي أسقط في عام 2011 عدداً من طغاة الشرق الأوسط. حرَاكٌ الشعوب في السّودان خلال العامين الأخيرين، وأيضاً في الجزائر وفنزويلا وميانمار، ولا يقف عند حدود. تكاد بعض الشعوب، في حراكها الجامح وانتفاضها الجريء، أن تتجاوز تلك الكيانات والهياكل التي أنشأتها الدبلوماسية الجماعية لتعزيز السلم والأمن الدوليين. سبقت خطى الحراك الجريئة تلك خطى المنظمات الدولية والإقليمية. صارت الشعوب أحرص على أقدارها من الحكومات والمنظمات الدولية والإقليمية التي أقامها السياسيون.

(4)

لكنك تنظر، في ناحية أخرى، إلى رجلِ دولةٍ قضى أربعة أعوام رئيساً للولايات المتحدة، آثر، في مسعىً ضيّق، لتنفيذ أجندة إدارته بأنانية دبلوماسية مفرطة، أن ينأى بالولايات المتحدة عمّا يشغل بال المجتمع الدولي من قضايا عالمية شكّلت، ولا تزال تشكّل، هاجساً مستداماً، وتحدّياً بالغ الخطورة، يتهدّد ليس الأمن والاستقرار فحسب، بل الحياة بكلكلها في بقاع الأرض. فيما تبحث بلدان العالم وزعاماته، عبر تعاونٍ وثيق، عن مخرجٍ لمشكلات تحوّلات المناخ وتغيّرات البيئة والأوبئة والجوائح ومعضلات الإرهاب والهجرة والنزوح، فإنّ الرئيس الأميركي السابق، ترامب، قرّر السباحة عكس تيار التضامن الدّولي الذي توافق على تلافي تلك المخاطر، فانسحب من اتفاقية المناخ، وتراجع عن دعم اليونسكو، وأسرف في الحُمق، فسعى إلى بناء جدران بينه وبين جيران بلاده. وتلك أمثلة لبعض حماقات من لا يرى ما تتطلّبه الأوضاع العالمية هذه الآونة، من تعاون جادّ ومبتكر، وليس الجنوح إلى التقوقع باستكبارٍ متوهّم، وبالتعاضد الذي يتخطّى العنصرية والقهر، وبتلاقٍ مأمولٍ بين أثرياءِ العالم وفقرائه، وبين أقويائه وضعفائه، لتتجه البشرية إلى مجابهة التحدّيات الماثلة بإرادة واحدة متحدة. "كوفيد 19" جائحة عالمية طارئة، لكأنها جاءتْ تذكرة مقدّرة لتجتمع البشرية يداً واحدة لهزيمتها، فيبقى كوكب الأرض مكانا معافىً، ورحبا يسع الجميع. لك أن تلاحظ كل التقدير لما تبذله منظمة الصحة العالمية، لكنك سترى الدول بمبادراتها الأحادية، قد سبقت تلك المنظمة في جهودها المضنية لمصارعة الجائحة.

(5)

إنْ كان ذلك هو التعاضد المأمول، فإنّ ما قد يثير العجب أن نرى ضعفاً في فعالية بعض المنظمات والكيانات الإقليمية، خصوصا في أفريقيا والشرق الأوسط والأدنى والأبعد، إذ يتبدّى للرائي عجز عددٍ منها في التصدّي لجملة التحدّيات والقضايا الشائكة التي تكتنف مسار شعوبها وبلدانها. لكأنّ الدبلوماسية الجماعية في تلكم الأصقاع محكومٌ عليها أن لا تجمع، بل أن تفرّق. وفي أسوأ الأحوال، يُراد لها أن تكتفي بمشاهدة ما يدور ثمّ تلتزم الصمت، ولا يأبه لها أحدٌ، بل أن يتناسوها تماما.

حين تتحرّك الشعوبُ نشداناً لحريةٍ بعدت عنها، وتطلعاً لاقتصاديات تحقق شيئاً من الكرامة، تجد ذلك الحراك يتمدّد إلى شعوب وبلدان أخرى

أما على الساحة الأفريقية، فمبعث الأسى يكمن في افتقار المنظمة الأفريقية إلى فعالية مطلوبة للتصدّي لمشكلات القارّة السّمراء. شهدنا أخيرا اشتداد الاختلاف حول تقاسم الموارد الطبيعية والمائية بين بلدان القارّة، مثل الخلاف الناشب بين السودان ومصر وإثيوبيا، فلا تتحرّك دبلوماسية القارة الجماعية، مُمثلة باتحادها الأفريقي، فتبادر بردم مثل تلك التصدّعات. تقع انقلابات عسكرية في بعض بلدان القارّة، فيتناسى الاتحاد التزاماته. قبل أيام قليلة، وقعتْ بين الجزائر والمغرب مقاطعة دبلوماسية مفصلية، فلا تسمع للاتحاد الأفريقي صوتاً مسموعاً. تتجاوز الدول منظماتها الإقليمية من كُساحٍ أصابها، فلا تأبه لها.

(6)

ليس الاتحاد الأفريقي وحده الذي تقاصرتْ فعالية دبلوماسيته الجماعية، وكاد يقتلها الضمور، بل أيضا البلدان العربية عبر جامعتها المُنهكة في القاهرة، قابعة هناك لا تُحرّك ساكناً، فيما تتقطع وشائج التواصل الدبلوماسي بين دولتين عربيتين كبيرتين، هما الجزائر والمملكة المغربية. ولك أن تسمع طنين ما فعل الحدّاد بإزميله، بينَ قطر وأشقائها في الخليج، فتسأل عن فعالية مجلس التعاون الخليجي التي تمنّى كثيرون، ومن تفاؤل حادب، أن يرفد جامعة الدول العربية بشيءٍ ممّا شهدنا له من فعالية في سنوات إنشائه الأولى. ولك أن تلاحظ هذا التواصل الحميم الذي أحدثته ثورة الاتصالات والمعلومات عبر الفضائيات وأجهزة الهواتف النقالة، فترى التناقض بائناً في القصور الذي اعترى كيانات التعاون الدولي، وتراجع دور الدبلوماسية الجماعية. لكن ألا يبقى التفاؤل في عودتها رهينا بشعوبٍ تنهض به، فلا تكون زعاماتها مثل ذلك الزعيم الأخرق الذي آثر التراجع عن مسلّمات التعاون الدولي ومقتضياته؟