02 ابريل 2024
هل يولد "بوتين العرب" من حرب أوكرانيا؟
هل يولد "بوتين العرب" من حرب أوكرانيا؟
كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.
يعيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "الاستراتيجية العظمى" إلى تعريفها الأولي، إلى معناها الأصلي الذي يبدو أن دولا كثيرة تنساه، وهذا التعريف يفيد بـ"ضرورة استعمال كل المقدّرات الوطنية من أجل الوصول إلى الأهداف السامية، متمثلة في الأمن القومي، تحت أي ظرف كان". وهو ما جعله يبدو في صورة العسكري الدبلوماسي، على غرار القياصرة السابقين. وهو ما يطرح كذلك على العرب أن يبحثوا في ثلاثية الحرب والدبلوماسية والاقتصاد، بوصفها مقومات وطنية روسية، عن مكانتهم في عقل بوتين. فهل يمكن أن نتحدث عن "بوتين العرب"، على غرار ما فعله المؤرخ والمتخصص في قضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الفرنسي رولان لومباردي، في إحالة رمزية على "لورانس العرب"؟
من الواضح أن روسيا أصبحت في معادلات العالم العربي رقما لا يمكن الالتفاف على وجوده أو تجاهله، على الأقل منذ العام 2015، بعد المشاركة الفعلية المباشرة في الحرب السورية، وفي معادلات حوض المتوسط وشمال أفريقيا منذ اندلاع الصراع الليبي ـ الليبي، بقرار إقليمي وأدوات محلية. كما أن المتوسط كان مجالا لمناورات ضخمة، عسكرية بأسلحة ثقيلة وغير مسبوقة، قام بها الأميركيون عبر حاملة الطائرات "هاري ترومان"، في بداية فبراير/ شباط الذي ودّعناه. وكانت المرّة الأولى منذ الحرب الباردة التي تخضع فيها مجموعة قتالية كاملة لحلف الناتو لحاملة طائرات أميركية، وتلتها مناورات فرنسية، عبر حاملة الطائرات شارل ديغول، بدعوى محاربة التنظيمات الإسلامية، بل إن وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، اعتبرت "هذه المهمة (سمّيت كليمنصو 2022) ستقودها إلى المشاركة في عملية "العزم الصلب" التي تكافح تنظيم الدولة الإسلامية في المشرق. كما أنها ستواجه "في الميدان الليبي، المليشيات التي تهرّب السلاح إلى منطقة الساحل"، في إشارة غير ودية إلى مجموعة فاغنر الروسية. وربطت فرنسا بين مناورات المتوسط "ومكافحة الجهاديين في العراق وسورية. وكان الرد الرسمي الروسي سريعا، إذ تحركت البحرية في كل الاتجاهات، من الهادي إلى الأطلسي مرورا بالمتوسط. وبطبيعة الحال، تتجاوز المناورات البعد الاستعراضي، وتندرج في منطق شامل، حيث جرى إيجاد قوة عمليات دائمة للبحرية الروسية في الحوض المتوسط تابعة للأسطول الروسي في البحر الأسود. وقد اكتسى الوجود الروسي في المتوسط أولويته في صبغته الحاضرة من وثيقة استراتيجية تحت عنوان "أسس سياسة الدولة في المجال البحري في أفق 0302"، والتي وقّعها بوتين نفسه في يوليو/تموز 7102.
الأحلام السوفييتية لم تمت في ذهن من اعتبر تفكيك الاتحاد السوفييتي القديم "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"
وروسيا بوتين موجودة في كل التربصات (بلغة كرة القدم) الجيوسياسية، المتعلقة بجزء من القارّة الأفريقية، حيثما توجد قوى عربية، متناحرة أو متوافقة، كما في مالي. وموسكو، في نظر الفرنسي لومباردي، صارت قِبلةً لكل الفاعلين في الرقعة الشرق أوسطية، من القاهرة إلى أنقرة مرورا بطهران وتل أبيب والرياض. ويكفي أن يتصفح المتتبع آخر صفحات الأخبار في الشهور الأخيرة، لينتبه إلى "الباليه" الدبلوماسي الذي تشهده بلاد "بُحيرة البجع".
الواضح أن الأحلام السوفييتية لم تمت في ذهن من اعتبر تفكيك الاتحاد السوفييتي القديم "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، وصار مسرح تحققها يمتد على رقعة الشطرنج الروسي، من دمشق إلى الخرطوم إلى برازيليا، وتشمل أدوات تحقيقها الأمن والصناعات الحربية والغاز والنفط، وهي المقومات التي تصنع حاضر العرب، وغير قليل من كينونتهم. وعندما ننظر إلى الحروب، نرى العرب. وعندما ننظر إلى الغاز والنفط نجد العرب. وعند النظر إلى القمح نجد عجز العرب عن إطعام أنفسهم، و"القمح مرّ في حقول الآخرين" على حد قول محمود درويش!. وقد حذر معهد الشرق الأوسط للأبحاث من أنه "إذا عطّلت الحرب إمدادات القمح للعالم العربي الذي يعتمد بشدة على الواردات لتوفير غذائه، قد تؤدّي الأزمة إلى تظاهرات جديدة وعدم استقرار في دول عدة".
العرب يتابعون كيف تخلت أوروبا وأميركا عن حلفائها عندما تساقطت نيازك الربيع العربي
ويبدو من الوهلة الأولى أن دول شمال أفريقيا لا علاقة مباشرة لها بما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، أو بين روسيا وجزء من العالم الغربي في الساحة الأوكرانية، ولا تتدخل هذه الدول في الصراع. ومن منطق الأشياء أن حلا سريعا سيكون من مصلحتها. وفي حالة طال الصراع، لن تتأخر آثاره الاقتصادية، سواء تعلّق الأمر بالمبادلات التجارية أو بارتفاع أسعار المواد الأساسية، لأن روسيا وأوكرانيا توفران المنتوج الزراعي للعالم، ومنه العرب، بحيث إن عشرة في المائة من صادرات العالم من القمح تضمنها روسيا، و5٪ أوكرانية، وتعد دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط الأكثر تبعية في هذا المجال، بما يناهز نصف حاجياتها، وعندما ستلتهم الحرب الحقول سيجوع العرب.
ومن حيث المنطق، قد يبدو للعرب أن في عودة موسكو نوعا من عودة أوضاعهم إلى منطق مخالف لما ساد منذ خروج الدب الروسي من حلبة القطبية الجيواستراتيجية، فالتاريخ يذكر أن انهيار جدار برلين، تلته انهيارات كبيرة، منذ بداية تسعينيات القرن العشرين. وكان العرب قد أضاعوا العراق، كما أضاعوا في تقلبات العقد الموالي كياناتٍ عديدة، لأنهم في الواقع لم يقرأوا قوة الهزَّات التي ضربت العالم، أو فشلوا في ترصيد ما حدث، والنجاح في تحقيق ديمقراطية قادرة على تفجير طاقات شعوبهم.
وعلى ضوء قراءة انفجارات الربيع العربي، يبدو بوتين مثل الحليف الموثوق به، على الرغم من الموقف منه، فإن العرب يتابعون كيف تخلت أوروبا وأميركا عن حلفائها عندما تساقطت نيازك الربيع العربي على عواصم تونس بن علي، وقاهرة مبارك وطرابلس القذافي، وكيف أن بوتين حمى حليفه بشار الأسد، ووضع الدبُّ قوائمه في قلب الشام، وفي قلب المعادلات الشرق ـ أوسطية.
القوة الفاعلة دوليا تتعامل مع الدائرة العربية في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا وفي غرب المتوسط كدائرة أزماتٍ لا تنتهي
وعلى عكس ما يبدو من جغرافيا العالم المترامية الأطراف، الربط بين ما حصل في جورجيا في 2008 وما يحصل في أوكرانيا حاليا وما يحدث في الشرق الأوسط معضلات متشابهة في العقل الاستراتيجي الروسي، فقد كان الدب الروسي يسعى إلى تأمين محيطه القوقازي، عبر وقف التمدّد الأطلسي إلى جواره المباشر، أو لِنَقل المجال الحيوي للدولة الروسية، بتكريس موسكو قوة إقليميةً في منطقة القوقاز. وكدول آسيوية عديدة فيها إثنيات مسلمة، وعادة ما تكون رهن أطماع غربية ومطالب استقلالية مشروعة، تعتبر موسكو ذلك "خزّانا استراتيجيا" يمكن أن يتحرّك ضدها في أي وقت. لهذا يرى بوتين "القوقاز الشمالي نقطة تلاق بين المسرحين الأوكراني والسوري العراقي. وهذه الجبهة المزدوجة دفعته إلى "تصليب الخطاب ضد الشركاء الأجانب المتهمين بالنزوع المغامراتي في العراق وسورية وليبيا". وكانت مبرّرا لمزيد من "القبضة المتشدّدة في الداخل وتأجيج الوطنية العدوانية التي تغذّت من حرب أوكرانيا ومن محاربة الإرهاب"، حسب محللين. ومن الواضح أن "قوس الأزمات" اتسع حول العرب، فأصبحوا في قلبها، وما زالت القوة الفاعلة دوليا، ومنها الصين وروسيا الصاعدتان، تتعامل مع الدائرة العربية في الشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا وفي غرب المتوسط كدائرة أزماتٍ لا تنتهي، ويسعى كل طرفٍ إلى بناء دوره على أساس العجز العربي في هذه المناطق.
من المحقق أن سؤالا من قبيل: هل سيولد "بوتين العرب" من الحرب الأوكرانية الحالية متأخر قليلا عن واقعٍ بدأ منذ نهاية الربيع العربي الذي شكّل منعطفا في المعادلات الجيواستراتيجية، الشيء الذي جعل خبيرا، مثل شارل تيبو، يقول "إن قوس الأزمات التي تضرب شمال أفريقيا والشرق الأوسط صار جزءا من أزمات أوروبا"، وهو ما يعني أن أي معالجة للعلاقة مع روسيا من هذا المنظور تجعل العواصم الكبرى تقرّر مصير العرب من دون استشارتهم!
كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.