هلوسات الديك الأخير

هلوسات الديك الأخير

06 ديسمبر 2020

ترامب وزوجته ميلانيا وضيفان عند عفوه عن الديك الرومي في البيت الأبيض (24/11/2020/Getty)

+ الخط -

لماذا لم تتحرّك ريشة واحدة في جسد الديك الرومي، القابع فوق قفصٍ في حديقة البيت الأبيض، ابتهاجًا بالعفو الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب عن حياته في اللحظة الأخيرة قبل الذبح؟

كانت المفارقة غريبة لأنصار حقوق الديوك المعدّة لموائد عيد الشكر الأميركي، بل لكل المنحازين لحق الحياة، سيما عندما تنبلج الحرية حبل نجاة يسبق حبل الشنق، فقد استقبل الديك قرار العفو كمن يستقبل سكّين الذبح، بحياد بالغ، وكأن ثنائية الحياة والموت اتحدت في عينيه الذابلتين، إلى الحد الذي لم يعد فيه للعملة غير وجه واحد.

مدركٌ أن التآويل ستتخذ مناحيَ شتّى، غير أن أي تأويلٍ لا يصدر، أولًا، من دراسة مسرح المشهد كاملًا، سيما عندما يتخذ الرئيس الأميركي هيئة القاضي، وهو يرفع يده مُصدرًا قرار العفو، بكل تلك المهابة والغطرسة، سيكون تأويلًا أبعد ما يكون عن المقاربة الحقيقية التي تمسّ جوهر الشخصية الأميركية، أولًا، التي تعطي نفسها الحقّ في محاكمة العالم كله، وفي فرزه حلفاء وخصومًا، ومحاور خير وشرّ، وكأن العالم قابعٌ في قفصٍ في حديقتها الخلفية، على غرار الديك، تمامًا، الذي ينتظر الحكم وتنفيذه.

كما أن أي تأويلٍ لا يخرج من مسرح المشهد الضيق للرئيس والديك، لن يحقّق أي مخرجاتٍ مقنعة، وهذا الحيز الضيق هو عين ما تريد لنا الكاميرا الأميركية أن نراه. أما الخروج الذي أعنيه، فهو البحث عن مصائر الديكة الأخرى التي ذبحت فعليًّا. ما تريد الكاميرا أن نراه هو مشهد العفو، والرأفة، والرحمة الأميركية، لا مشاهد الذبح، والقتل، والفتك، التي تمارسها الشخصية ذاتها، في "حدائق" أخرى، لا تنبت فيها غير زهور الدمّ.

ينطوي المشهد، كذلك، على النهج الفرداني الذي تقوم عليه فكرة الإمبريالية، وإنْ جاء من باب الذبح والعفو، والمنح والمنع. وتبدو فكرة الإعلاء من قيمة الفرد على حساب الجماعة بارزة هنا، والأخطر أنها تُشعر المشاهد أن الفرد يختصر الجماعة برمّتها؛ إذ سيشعر المشاهد أن "الحرية" التي منحت لهذا الديك "الفرد" تنسحب على بقية الديكة الأخرى، على الرغم من أن الواقع ليس كذلك، لكنها استبدادية الصورة التي تخيّم على ذهن الرائي، فضلًا عن أن مشهد العفو ذاته يمنح الجلاد شرف التطهّر من الدماء التي أهرقها؛ إذ بديكٍ ناجٍ واحدٍ يتسلّم الجلاد شهادة البراءة، مهما تعاظمت جرائمه وفظاعاته بحقّ الديكة الأخرى؛ على اعتبار أن "الفرد الواحد" هو صاحب القيمة، والحظوة، وليس العامة التي لا تُرى إلا كذبابٍ من الشرفات الشاهقة. وفي المقابل، تبيح أميركا لنفسها أن تبيد العامة من أجل فرد واحد تناصبه العداء، كما حدث في حربيها الدمويتين على العراق، فقد دمّرت بلدًا كاملاً، ببناه التحتية ومرافقه وحضارته وتاريخه ومستقبله، وأشعلت نسيجه الاجتماعي بالفتن والتطييف، لقاء فردٍ واحدٍ حاول أن يشقّ عصا الطاعة. ويشبه ذلك نسيجها الاجتماعيّ نفسه الذي لا يُحتفى فيه إلا بالفرد "المتميز"، على تباين صنوفه وحظوظه، كأن ترافق الكاميرات حياة مواطنةٍ عاديةٍ لا تملك من المؤهلات غير مؤخرة وصدر بارزين، مثل كيم كاردشيان، بينما تغيب هذه الكاميرات، وتنطفئ في زقاق الزنوج والمشرّدين النائمين في علب الكرتون.

في الشقّ الثاني من المسرح، وأعني به الديك المحايد، فهو المشهد الفاضح الذي حاولت كاميرات الرئيس أن تواريه بلا جدوى، فقد كان الديك البطل الحقيقي في هذا المشهد، على غير ما أرادته طقوس البهجة الأميركية التي تعوّدت على استقبال أحداث كهذه، بالقفز وإطلاق البالونات الملونة والألعاب النارية، فقد أدرك هذا الديك أن لا فرق بين حبلي النجاة والمشنقة، ما دام القرار أميركيًّا؛ لأن الفرد الحرّ لن يشعر بالحرية إلا مع الجماعة. صحيحٌ أنه سيكون فردًا مميزًا لأنه حظي بالحياة، لكن ثمنها عزلة مطلقة، ولا قيمة لحياةٍ تأتي بقرار من جلادٍ يمنح نفسه حقّ فتح القفص وإغلاقه متى شاء.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.