هلاك الأمم... المترفون المتسبّب الأول
(أسعد عرابي)
لماذا كثرة المترفين لا تبعث على التفاؤل؟
قانون التدمير القرآني: أولاً، "إذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا" (الإسراء: 16). لطالما تفكّرتُ وتعجّبتُ من أمر هذه الآية. عندما يكثر المترفون، يكثر المفسدون، وعندما يكثر المفسدون، يكثر الفساد، وعندما يكثر الفساد، تنهار الدول. "أمَرْنا" تحتمل عدّة قراءات، جميعا تؤدّي المعنى نفسه أو النتيجة نفسها في نهاية المطاف. وقد ذهب بعض المفسّرين إلى القول: "أمَرْنا مترفيها" بالطاعة، ولكنّهم عصوا الأمر وفسقوا. وذهب آخرون إلى قراءة "أمّرْنا مترفيها"، أي جعلنا لهم الإمارة، أو سلطة اتخاذ القرار، وذهب غيرهم إلى القول: "آمَرْنا مترفيها" أي أكثرناهم، والتكثير قد يقود إلى عظم الأمر والظهور والغلبة. وقد يكون ذلك فعلياً (عدداً) أو معنوياً (تأثيراً، بفعل سلطة المال والسياسة)، بمعنى عظم شأنهم وظهور أمرهم وتفشّي نهجهم على نطاق واسع، وكلاهما يؤدّي المعنى نفسه أو النتيجة نفسها، فالغلبة تؤدّي إلى التسلّط. فتأمير المترفين أو تأميرهم (تكثيرهم)، يعني ظهور أمرهم وانتشاره، وهو يؤدّي بالنتيجة إلى ظهورالفساد وتفشّيه على نطاق واسع نظراً لطبيعة المترفين، كما سنرى.
وفي الحديث، سُئل النبي ﷺ، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث. وسياق الحديث هنا يدلّ على أن وجود الصالحين لم يكن له تأثير أو لم يحل دون كثرة الخبث. وبالتالي، هو غير كافٍ لدرء الهلاك، لأن وجودهم لم يكن له تأثير إيجابي في الحدّ من تفشّي الخبث والانحراف، اللذين استوجبا الهلاك. فهم صالحون، ولكن لأنفسهم فحسب، فليس لهم تأثير إيجابي في صلاح المجتمع. وفي المقابل، "وما كان ربّك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"، فلا يكفي أن تكون صالحاً، فغلبة الخبث تؤدّي إلى الهلاك، هلاك الطالح والصالح معاً. والأكثر لفتاً للانتباه هنا، ليس كيف تقرأ "أمرنا"، بقدر ما هو بعدها، "المترفين". فهو لم يقل: وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا أهلها ففسقوا فيها، بل خصّ المترفين. فكأنّ الفسق هو من اختصاصهم وسماتهم. فالمترفون إن أُمروا عصوا، وإن أُمّروا عصوا، وإن آمروا (كثروا) عصوا. فهم من يتحقّق فيه شرط الهلاك أو التدمير. فأمرنا هنا شاملة ومتعدّدة الأغراض، ولكنّ النتيجة واحدة، وهي الهلاك، وهذا من الإعجاز البلاغي في القرآن. فالعلّة هي في المترفين وطبيعتهم، المتمثّلة بالغرور والكبر، ومن ثمّ التمرّد والعصيان، وهو سلوك شيطاني قديم. والأمر على أيّ حال لا يوجّه عادةً للأمم إلا بعد استتباب الأمن والاستقرار والنمو والازدهار، والوصول إلى مستوى عالٍ من الرفاهية (إصباغ النعم أوالترف)، التي يأتي بعدها الامتحان بإرسال الرسل ليشكر أهل القرى أو يكفروا.
ولم نسمع بقرىً أو بأمم أُهلكت وهي فقيرة، بل غنيّة مترفة متكبّرة، كعاد التي قالت: من أشدّ منا قوى؟ وثمود التي نحتَت الجبال بيوتاً، وفرعون ذي الأوتاد. لكنّ المشكلة هي في الوصول إلى مرحلة الترف، التي يصل معها الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر، والتمرّد والعصيان، الذي يقود بالنتيجة إلى الجحود وكفر النعمة. ويبدو أن في الأمر متلازمةً، فالتكليف أوالأمر لا يتم إلا بعد استتباب الأمن والاستقرار، والرخاء والازدهار، ولكنّ المعضلة هنا أنه مع الوصول إلى هذه المرحلة، يكون المجتمع قد وصل إلى مرحلة الترف أيضاً، أو أنتج طبقةً لا يستهان بها من المترفين، يكون لها تأثير أو شأن في المجتمع وفي قيادته وتوجيهه، وعلى الأرجح أنها ستقود في الاتجاه الخاطئ، وسترفض التكليف وتعصي التوجيه الإلهي، وهذه طبيعة بشرية، فمع الغنى والترف، يأتي الكبر والغرور، والتمرّد، والعصيان والجحود، كما سيتضح من آيات أخرى، وهذا هو أصل المشكلة، وهي "الجحود"، أي "الكفر".
لا يكفي أن تكون صالحاً، فغلبة الخبث تؤدّي إلى الهلاك، هلاك الطالح والصالح معاً
والخلاصة، أن الترف أدّى إلى الفسق، الذي استوجب التدمير. والفسق هو الخروج عن الطاعة (أو التمرّد والعصيان) للإفساد على وجه الخصوص، وبطبيعة الحال لا بدّ أن يكون الأمر بالطاعة بالمعروف. وهنا نقطتان، أو خطآن جسيمان يقع فيهما المترفون. الأوّل، وهو العصيان أوالتمرّد بسبب الترف، وهو كفر للنعمة والمنعم، عوضاً عن الطاعة والشكر. والثاني هو الإفساد. وكلاهما يؤدّي إلى الهلاك والتدمير، ولكنّ الفساد قد يكون هو السبب المباشر أو الأداة المباشرة للتدمير.
ثانياً، "وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون" (المؤمنون: 33). نحن نعلم أن المصير في الحياة الآخرة مرتبط بالحياة الدنيا، فالذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة، كانوا من المترفين في الحياة الدنيا، ولو لم يكن ذلك سبباً مهمّاً في كفرهم، لما ذُكر في سياق الآية القرآنية، فكأنّ هناك استدراكاً أو إضافة مهمّة في الآية تقول إن الترف كان سبب كفرهم. والسياق هنا يفيد بأن الكفر المقصود أحد احتمالين: إمّا كفر مباشر بالله سبحانه وتعالى، وبالتالي يتبعه التكذيب باليوم الآخر، أو تكذيب بالبعث واليوم الآخر من دون الكفر بالله (ككفار قريش)، وكلاهما كفر. ولكنّ العامل المشترك في الآيتين هو الترف. فالمترفون، إن كانوا كفّاراً، فهم لن يؤمنوا، وإن كانوا مؤمنين فسيفسقون، وفي الحالتيْن، هذا جحودٌ للنعمة وخروج على المنعم وعدم اعتراف له، والجحود كفر. وفي الحالتين، المترفون هم من سيقودون التمرّد والمقاومة ضدّ الإصلاح والتغيير. والكفر أيضاً عامل مشترك في الحالتين. ففي الآية الثانية هو كفر واضح، وفي الأولى، فسقٌ سببُه الترف. ففي الآية الثانية، الترف أدّى إلى كفرٍ صريح، وفي الآية الأولى أدّى إلى الفسق، والفسقُ هو الخروج عن الطاعة، للإفساد على وجه الخصوص (كما فسقُ إبليس عن أمر ربه ثم ما تبعه من إمعان واستمرار في المعصية إلى يوم البعث). وهذا السبب أشمل من الكفر المباشر بالله أو باليوم الآخر أو بكليهما، أي إنه ليس بالضرورة أن تكون القرية أو الأمّة كافرة بالله أو باليوم الآخر لتدمّر، بل قد تكون مؤمنة بهما، ولكن إذا توفّرت فيها شروط التدمير، وهي الفسق، دُمّرت، لقوله تعالى: "ففسقوا فيها، فحق عليها القول"، أي توافرت (أو تحقّقت) فيها الشروط، "فدمرناها تدميراً".
"وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدْنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون" (الزخرف: 23). "وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مُترفوها إنّا بما أرسلتم به كافرون" (سبأ: 34). وهنا حسم أمر المترفين بشكل واضح ودون استثناءات، فهم لا يؤمنون، وهم من سيتصدّى للمنذرين إن كانوا كفاراً، وللمصلحين إن كانوا غير كفارٍ، بالتكذيب والمقاومة، بالحجج والأساليب كلّها. فالخلاصة، أن المترفين إن كانوا كفاراً، لن يؤمنوا، وإن كانوا مؤمنين فسيفسقون، وإن أمروا عصوا، وإن أُمّروا عصوا، وإن آمروا (كثروا) عصوا. فهم من يتحقّق فيه شرط الهلاك والتدمير، وسيؤدّون إلى هلاك غيرهم معهم.
ما مشكلة المترفين؟... الكبر والجحود. وهنا ثالثاً، "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" (العلق: 6). أدّى الغنى إلى الطغيان، والطغيان هو تجاوز الحدّ في كلّ شيء. هنا الغنى يؤدّي إلى الغرور والكبر الذي يقود إلى التمرّد على (أمر) المنعم، وهو طغيان، لأنه ما كان ينبغي له تجاوز ذلك الحدّ مع من أوجده، وأنعم عليه وأغناه. وهو لم يقل إن الإنسان كان طاغيةً عندما كان فقيراً، بل بعد أن استغنى فقط. وهو جحود، عوضاً عن شكر النعمة والمنعم، والجحود هو الإنكار، أي الكفر، ويبدو أن هذه هي طبيعة الإنسان. وهي مشكلة إبليس أيضاً، فالغرور قاده إلى التكبّر على أمر الله ومعصيته، وعدم السجود لآدم، لأنه كان يرى نفسه أفضل منه، ولكن الله هو الذي خلقه وخلق آدم، فلا فضل له. فالمشكلة في نهاية المطاف هي الغرور والكبر، والترف (أو الغنى) مجردّ سبب. وهذه مشكلة أزلية مع الإنسان، فالمال والسلطة، كلاهما أو أحدهما، يقوده إلى الغرور والكبر. ومن أبرز الأمثله على ذلك فرعون، الذي أوتي السلطة، وقارون الذي أوتي المال. ففرعون أوتي الملك والسلطة، ولكنّه أنكر فضل (بل وجود) من خلقه، فكفر، ولكنّه لم يكتف بذلك، بل ادّعى الألوهية لنفسه من دون من أوجده، وهو بهذا تجاوز الحدود "طغيان مطلق"، ولذلك كان التوجيه لموسى "اذهب إلى فرعون إنه طغى". أمّا قارون الذي أوتي المال والثروة، فقد قال بوضوح: إنما أوتيته على علم عندي، أي جحد فضل المنعم عليه، واغترّ بنفسه، وهو كفر، وغيرهم من أمثال الطغاة والمفسدين كثر على مرّ العصور، ولكن لا يتعظ بعضهم بالآخر. فمن لم يؤتِ النعمة حقّها من الشكر (وهو الاعتراف بها للمنعم، ومن ثمّ طاعته فيها)، فهو جحود بها، والجحود هو الكفر، والكفر كما يقول الشاعر الجاهلي مخبثة لنفس المنعم. فنعود إلى المشكلة نفسها، وفي الدائرة نفسها مع الإنسان، وهي الكفر بالله أو بنعمه، "وقليل من عبادي الشكور".
لاحظ في الآية الثانية أن الذين تمرّدوا هم المترفون، وغالباً هم الطبقة الرأسمالية السياسية (صاحبة المال والسلطة)، المتمكّنة في كلّ مجتمع عبر العصور، والسبب هو الكبر والغرور، بسبب المال والسلطة، وخشيتها من فقدان وضعها أو منافستها فيه أو حتى مشاركتها فيه، وفي النهاية هذا نوع من الكبر والغرور والعنصرية، لأن هؤلاء يرون أنفسهم فوق غيرهم وأفضل منهم، وأن لهم الأحقية في احتكار ذلك الوضع دون غيرهم من خلق الله، ويستكثرون مشاركة أحد فيه حتى وإن كانوا أهلاً لذلك، وهذا الصراع هو الوضع السائد عبر العصور، وهو وضع طبيعي مع كلّ دين أو ثورة أو محاولة إصلاح أو تغير جذري في النظام الاجتماعي أو الاقتصادي لأيّ مجتمع.
أقلية كان المصلحون الذين ينهون عن الفساد في الأرض، أمّا الأغلبية الساحقة عبر القرون، فأغوتهم حياة الترف والدعة
رابعاً، "وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه" (فصّلت: 51). وهنا تأكيد للشرح السابق. فالإنسان عندما ينعم الله عليه، ويستغني، ينسى ويصيبه الغرور والكبر. والكبر بطر وإنكار، نتيجته الإعراض عن المنعم، أي إنكار فضله والابتعاد عنه، ظنّاً منه أنه لم يعد بحاجة إليه.
خامساً، "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" (النحل: 112). وهنا تفسير آخر وأوضح لما نقول، وهو هذه القرية التي كانت تنعم بالأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي متعدّد المصادر، ولكنّها كفرت بتلك النعم، ولم يقل إنها كفرت بالله مباشرة، وذلك بعدم شكر النعم، أي عدم الاعتراف بها للمنعم أو بالنسيان، الذي يترتب عنهما عدم طاعته في ما أنعم. فتبدّل الحال، فانقطعت مصادر الإمداد، وذهب الأمن والاستقرار. والطمأنينة هي السكينة والاستقرار، وهو أمر مرتبط إلى حدّ كبير بالارتياح للتوقّعات المستقبلية وعدم القلق، أو حالة اليقين من المستقبل، وهو شرط للاستثمار والتجارة، والرواج والازدهار. ولاحظ هنا أن الأمن والاستقرار يأتيان في أوّل الآية، وهما شرطان لضمان الإمداد والإنتاج، ورواج التجارة والازدهار؛ وفي آخر الآية، ونتيجة للكفر، يأتي الجوع قبل الأمن، والجوع أشدّ بطبيعة الحال، لأنه يمثّل تهديداً مباشراً لحياة الإنسان، وهذا يتّفق مع "مثلث ماسلو" الشهير للاحتياجات البشرية، الذي يضع الجوع أو الحاجة إلى الطعام قبل الأمن. كذلك فإن المجاعة، يمكن تصنيفها مرحلةً متقدّمةً جدّاً من مراحل الركود أو الانكماش الاقتصادي الحادّ، وندرة الإنتاج وتعطّل الإمداد، وتمثّل تهديداً مباشراً للأمن والاستقرار الداخلي، فلا أمنَ ولا استقرارَ ببطون خاوية. وقد رأينا اندلاع كثير من الاحتجاجات والمظاهرات والثورات وحالات عدم الاستقرار، وارتفاع معدّلات الجريمة وزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بسبب غلاء الأسعار ونقص المواد الأساسية، وتدهور مستويات المعيشة. وأسباب المجاعة قد تكون متعدّدةً وأشمل وأكثر تعقيداً من فقدان الأمن أو زعزعة الاستقرار. فقد تكون بسبب كساد، أو فساد مستشرٍ، أو خلل أو أزمات اقتصادية، أو أوبئة أو كوارث طبيعية، أو جدب وقحط، أو حصار أو حرب، أو غير ذلك. والخلاصة أن الأمن والاستقرار شرطان للرفاه الاقتصادي، ولكنّهما غير كافيين لضمان استدامته. كذلك فإن الرفاه الاقتصادي لازم، ولكنّه غير كافٍ لضمان الأمن والاستقرار.
أسباب المجاعة قد تكون متعدّدةً وأشمل وأكثر تعقيداً من فقدان الأمن أو زعزعة الاستقرار
اللافت في هذه الآية، أيضاً، أن الرزق يأتي لهذه القرية من كلّ مكان، ومن غير المعلوم إن كان المقصود أنها لا تنتجه، ولكنّه يُجلب إليها من طريق وسائط الإمداد، كما يبدو من ظاهر الآية، وكما هو حال مكّة. فكما يشير بعض المفسّرين إلى أنها القرية المقصودة في الآية، أو أنه يأتي إليها سواء إنتاجاً محلّياً أو مستورداً، وهو أعمّ وأشمل، فهو رزق أتى إليها بقدرة الله ومشيئته. وعلى الأرجح أن القرية لا تنتج، ولكن تأتيها احتياجاتها ورزقها إلى عندها، وكأنها هدية مهداة، وهذه ذروة النعمة وأوجب للشكر، وإن كان المقصود بالقرية هو مكّة، فهذا لا يمنع من تعميم التجربة لأخذ العبر والدروس، بل لذلك ضربها الله مثلاً يبقى على مرّ العصور، قريةً أينما كانت. ولكن إن كان مصدر الرزق خارجياً بالمعنى الحرفي، أي إمداداً من خارج دائرة الإنتاج المحلّي، فهذه هي صفة الدولة الريعية بالمصطلح الاقتصادي الحديث، إذ تُعرّف بتلك التي تحصل على دخلها من مصدر خارجي، أي ذلك الذي يتخطّى دائرة الإنتاج المحلّي، كأن تكون مداخيل بيع في الخارج لموارد طبيعية استخرجت محلّياً، أو إعانات أو تحويلات من الخارج، أو نحو ذلك. ويبدو أن هذا أقصى درجات النعم، إذا كنتَ لا تنتج، أو ليس لديك القدرة ولا إمكانية الإنتاج، لأيّ أسباب كانت، كشحّ الموارد الطبيعية، من مياه أو أراضي خصبة أو طبيعية قاسية، أو غير ذلك، ولكن يهيئ لك الله أن يأتي إليك رزقك رغداً من دون عناء ومشقّة، فهذه من أجلّ وأتم النعم التي تستوجب الشكر، وهذه من سمات الاقتصادات الريعية، كما هو حال مكّة قبل الإسلام، وكما هو حال دول الخليج الريعية اليوم، وهذا أوجب لشكر النعم، ومكّة كانت لا تنتج غذاءها ولا تنتج شيئاً، ولكن كان يُجبى إليها ثمرات كلّ شيء "أولم نمكن لهم حرماً آمناً يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا". وهنا، الأمن أتى أولاً، والرزق بعده، خاصّاً من عند الله، وهو حال مشابه لحال دول الخليج اليوم، التي لا تكاد تنتج شيئاً، ولكنّها تستخرج النفط وتبيعه في الخارج، وتستورد في المقابل كلّ ما تحتاج إليه (من سلع استهلاكية، ورأسمالية، وعمالة من الخارج)، ويأتيها كلّ شيء من شتى بقاع الأرض، وهي لا شك تنعم قبل ذلك بالأمن والاستقرار في بحر متلاطم حولها بعدم الاستقرار، ولو تغيّر شيء من ذلك، لربّما تغيرت الأحوال، فهذه قمم من النعم تستوجب الحمد والشكر، والعمل الجادّ على المحافظة عليها.
سادساً، "وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين" (القصص: 58). البطر هو التكبّر، والتكبّر طغيان، والطغيان هو تجاوز الحدّ. والبطر بالشيء هو الطغيان به، والبطر بالمعيشة أو بالنعمة هو التكبر والطغيان بها، أي تجاوز الحدّ المسموح به من المنعم بها، وهذا في حدّ ذاته يستوجب زوالها، لأن فيه إنكاراً للنعمة والمنعم، نتيجته وضع النعمة في غير ما جُعلت له، وهذا قد يحتمل عدّة أوجه ودرجات، من الاستخفاف بها (ويدخل فيه الهدر والتبذير) إلى إستخدامها في معصية المنعم، إلى محاربته بها، وهذا قمّة الجحود والطغيان. وهذه جميعاً مؤداها زوال النعمة، وقد ينتهي الأمر بالهلاك، والسبب المبدئيّ في ذلك كلّه هو الجحود، أي "كفر" النعمة. والكفر هو الإنكار أو عدم الاعتراف، الذي يترتب عنه المعصية وعدم الطاعة، وهو عكس شكر النعمة الذي يستوجب أولاً، الاعتراف بها للمنعم، ثمّ طاعته في ما أنعم، أي اتباع الوصفة أو التعليمات أو الإرشادات المصاحبة التي وضعها المنعم لكيفية التعامل مع نعمته، إن صحّ القول، ومقابلتها بالشكر والعرفان. وبطر المعيشة استخفافاً بها، غروراً وكبراً وطغياناً، هو جحود وكفر للنعمة يستوجب زوالها. والمعيشة قد تحتمل الحدّ الأدنى لما يُبقي على الحياة، فكيف يكون بطرانها؟
والكبر يعني بالضرورة الإنكار، فالمتكبّر إنما ينسب ما أوتي إلى نفسه وإلى فضله، قصداً أو نسياً، ولا يعترف به لمن أنعم به عليه، قولاً أو عملاً، وهذا يعني العصيان والتمرّد على المنعم، وهو لو تواضع وتذكّر لما تكبّر، بما لا يرضي المنعم، ولكن المال والغنى يعميانه وينسيانه، كما قال قارون: "إنما أوتيته على علم عندي"، فنسب الفضل إلى نفسه وأنكره على المتفضّل، وكان ذلك سبباً في هلاكه. إذاً، فبطر المعيشة أو النعمة هو كفرها. فالمسألة مرّة أخرى ودائماً تدور حول الكفر.
المترفون سيقودون التمرّد والمقاومة ضدّ الإصلاح والتغيير
من هم المُترفون؟... سابعاً، "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" (هود: 116). هنا الترف مرّة أخرى، هو السبب المسيطر والعامل المهيمن في الهلاك عبر العصور والأمم السابقة، أقلية فقط كانوا هم المصلحين الذين ينهون عن الفساد في الأرض، أمّا الأغلبية الساحقة عبر القرون السابقة، فقد أغوتهم حياة الترف والدعة، وانغمسوا في الشهوات، والملذّات، واتهمهم القرآن بالظلم، والإجرام.
ثامناً، "وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون" (الأنعام: 123). هنا الوصف أشمل، فلم يصفهم بالكفر، ولكنّهم مجرمون، فقد يكونون كفّاراً، وقد يكونون مؤمنين، ولكنّهم مجرمون، وهؤلاء عادةً هم الطبقة المتمكّنة التي تتحكّم بالمجتمع وتقوده، وهي التي تحارب الأنبياء والمصلحين، ككفار قريش، وغيرها من الأمم السابقة. وهي الطبقة التي تتصدّى لمحاولات التغير والإصلاح في المجتمع، كالتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى، كالثورات التي تؤدّي إلى تحوّلات جذرية، لأنها تؤدّي إلى تغيير الأوضاع السائدة لغير صالح هذه الطبقة المتمكّنة، وبالتالي هي ترى فيها تهديداً لوضعها الاقتصادي والسياسي، وستحاربها بكلّ ما أوتيت من قوة من أجل تعزيز الأوضاع السائدة وتثبيتها لأطول أمد ممكن، لأنها مستفيدة منها. هذه الفئة موجودة اليوم في كلّ مجتمع، وهي تقاوم الإصلاح والتغيير، وتحاول تثبيت الأوضاع القائمة خشية فقدان وضعها ومكانتها الاقتصادية والسياسية، وتقود الثورات المضادّة للإصلاح والتغيير في المجتمع بعد إزاحتها، ولا تستقرّ أمور الإصلاح في المجتمع إلا بالتخلّص من قادتها وقطع رؤوس الأفاعي التي تقودها، وهي تتقاطع بطبيعة الحال مع المترفين، كما رأينا في الآيات السابقة.