هكذا يجادلون العالم في مصر

هكذا يجادلون العالم في مصر

15 مارس 2021
+ الخط -

هل تضحك من فرط الكوميديا مما في بيانٍ لمجلس النقابة العامة للمهن الزراعية في مصر، أم تأسى للحال الذي بلغه المشهد العام في هذا البلد من ركاكةٍ تتحدّى سقوف الخيال؟ تردّ النقابة هذه على بيانٍ أصدره، يوم الجمعة الماضي، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ووقّعت عليه 31 دولة (11 منها خارج المجلس)، تعبّر فيه عن قلقها من مسار حقوق الإنسان في مصر. يقول مجلس النقابة إنه يرفض البيان الدولي هذا جملةً وتفصيلا، والذي  "يذكّرنا ببيانات النازية حين اعتبرت نفسَها وصيةً على العالم كله باعتبار أنها عرقٌ أبيض". وإذا سألتَ نفسَك عن صلة نقابةٍ مهنيةٍ معنيةٍ بالزراعة بمسألة حقوق الإنسان ستلقى أيضا أن اتحاد الصناعات المصرية أصدر بيانا مشابها، لكن الحميّة الوطنية لدى القائمين عليه لم تأخذهم إلى أن يفعلوا كما زملاؤهم في نقابة المهن الزراعية، لمّا رمى هؤلاء البيان الأممي باتهام بالغ الفظاظة .. النازية (!)، وإنما اكتفوا بالتأشير إلى متطلبات أمن مصر القومي، وظروفها وثقافتها وتقاليدها، وكلها تختلف (جوهريا) في مسار حقوق الإنسان عن ما لدى تلك الدول الموقعة. وعلى شيءٍ من المشابهة مع هذا الكلام الفلكلوري التقليدي الرتيب، جاء في بيان النقابة العامة للصيادلة إن ثمّة "أكاذيب" و"ادّعاءات لأغراضٍ معلومة" (ما هي بحق السماء؟)، في بيان الدول الـ31.
أن تتجنّد في مصر نقابات الزراعة والصيدلة والصناعات (وغيرها)، مع حزب الوفد (وغيره)، مع مجلسي النواب والشيوخ، وكذا المنظمة المصرية لحقوق الإنسان (؟) وتشكيلاتٍ مثيلةٍ بلا عدد، أن يتجنّدوا (وغيرهم) في إصدار بيانات تنديدٍ بالبيان الدولي، الأول من نوعه بشأن مصر، فذلك يعني أن النظام في حالة انزعاجٍ شديدة منه، وقد وقّعت عليه الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول عديدة (البوسنة وحدها من الدول الإسلامية، ولا دولة عربية!). لم يكتف ببيان وزارة الخارجية، فنشطت أجهزتُه في تحشيد بياناتٍ مضادّة، بعضها كاريكاتيري، من قبيل ذاك الزراعي، ومن قبيل بيان آخر لملتقى معني بالتنمية وحقوق الإنسان، اعتبر أن بيان الدول الـ31 استقى معلوماته من منظماتٍ بعينها غير مهنية، لديها "ثأر شخصي مع الدولة المصرية" (بالحرف!). ومن بين كثيرٍ يدلّ عليه هذا النفير العام الذي يباشره الحكم في مصر، عندما يلملم بياناتٍ من هذا اللون (المضحك المبكي؟) أن هذا الحكم فقد أعصابَه، جرّاء البيان العالمي الذي سارعت 17 منظمة حقوقية دولية وإقليمية إلى إشهار دعمها الكامل له، منها "العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش" و"الشبكة الأورو متوسطية لحقوق الإنسان".
مما يرطُن به مشايعو نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، والملتحقون به، أن الإخوان المسلمين لا يفهمون العالم، ولم يحتكّوا به، ولذلك لم يكن لائقا بمصر أن يحكموها وحالهم هو هذا. وهنا يجوز السؤال عن العالم الذي يعرفه هذا النظام، ويضع نفسَه فيه، عندما يطلب السيسي ذاته، في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس فرنسا، ماكرون، في الإليزيه، قبل عامين، من الأوروبيين النظر إلى المصريين بعيونٍ مصرية، وليس بعيونٍ أوروبية، بشأن مسألة حقوق الإنسان. ثم يجيب صحافيا فرنسيا بالسؤال عم يصنع بشأن ثلاثة ملايين مصري يولدون كل عام، ومن أين يأتي بوظائف لمليون ونصف مليون خرّيج جامعي سنويا. وإذا كانت هذه لغة رئيس الدولة عن بلده وشعبه أمام العالم، يصير طبيعيا أن ينصح هذا الرجل وزيرة الصحة في حكومته بأن يُكمل أولادُها تعليمهم في الخارج. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أي لأن حقوق الإنسان تذكّر بأن مصر باتت شأنا حقوقيا في العالم، وموضوع مراقبة ومتابعة فيه، ولأن الحكم فيها جلدُه سميك، وإحساسُه بليد، وينقصُه التهذيب في مخاطبة العالم، لم يكن مستغربا من وزارة الخارجية المصرية، في مارس/ آذار 2018، أن تنعَتَ مفوّض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السابق، زيد بن رعد، بأنه يدعم "جماعةً إرهابية"، بعد أن تحدّث عن "مناخ تخويفٍ سائد" في مصر.
قُصاراه، قال بيان مجلس حقوق الإنسان، الموقّع من 31 دولة، بعض المعلوم والمؤكّد بشـأن غير قضيةٍ في الحال الشديد السوء لحقوق الإنسان في مصر (ندّد به ما يسمّى البرلمان العربي!). أما الردود المصرية، الرسمية (والأهلية إن جاز الوصف) عليه، وإن لم يقرأها إلا أمثالُنا، نحن أصحاب التعاليق المرتجلة في الصحافة، فقالت الكثير عن حالٍ بالغ الرثاثة في راهن بلدٍ عظيمٍ اسمه مصر.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.