هشام جعيّط .. مؤرّخ اللحظات التأسيسية

هشام جعيّط .. مؤرّخ اللحظات التأسيسية

08 يونيو 2021

(رسم: أنس عوض)

+ الخط -

رحل هشام جعيّط، المؤرّخ والمفكر والمثقف والداعية، صاحب الهم والرؤية، والمحاولات الدائبة للإضافة والتغيير. جعيّط ليس فردا، إنما جيل بأكمله، جاءوا بعد طه حسين، ومعه، تأثروا به، شربوا منه، روحه القلقة، تمرّده، جرأته النقدية، انفتاحه على الآخر، تفاعله، انبهاره حينا، واشتباكه أحيانا، وتقلبه الدائم على جمر السؤال.
نشأ جعيّط متدينا بالثقافة والنسب العائلي، أبوه وجدّه من أبناء الزيتونة، (الأزهر المغاربي)، وعمّه أول مفتٍ للديار التونسية. درس العربية، وأتقنها، وتشرّبها لغة وثقافة وانتماء، درس الفلسفة، ثم تخصّص في التاريخ، ومنه انطلق. توقف جعيّط، مثل جيله كله، أمام اللحظات التأسيسية في تاريخ الإسلام، وآثارها الممتدّة إلى يومنا وغدنا.. الوحي.. النبوة.. تاريخ الرسول.. الفتنة الأولى.. تأسيس المدن.. وانحاز للمناهج الحديثة في الحفر والتنقيب والبحث عن "جديد"، عن "إضافة"، عن قراءة "علمية"، تتجاوز ما درجنا عليه، ولم نزَل، من قراءاتٍ تقديسيةٍ للتاريخ، تحوّله إلى مادّة وعظية، وقصص، وحكايات، وأساطير، أو مادّة صراعية، حجاجية، تنتصر للقبيلة.. الفرقة.. المذهب.. الأيديولوجيا. لا حقائق تاريخية مسمّمة بالواقع، بتركيبه وتعقيده وتناقضاته. ذهب هشام إلى فرنسا، وواجه التحدّي نفسه، وجد أغلب الكتابات الاستشراقية التي اهتمت بالإسلام، وتاريخه بالأخص، "مؤدلجة"، سجالية، عدائية، أسطورية، على طريقتها، تفتقر، بدورها، إلى العلمية، فاشتبك مع القراءتين، وانتقدهما بالقدر نفسه.
قدم هشام جعيّط كتابا عن تاريخ "الكوفة"، رصد فيه نشأة المدينة العربية الإسلامية، تجاوز مقرّرات الفكر التاريخي التقليدي في الكتابة عن تاريخ الأمصار، وما تشهده من تطوراتٍ سياسيةٍ وحروب، إلى الكتابة عن المدينة، بوصفها فكرة، قيمة، إطارا لفلسفة الإسلام في التخطيط والعمران، البناء، والتوزيع السكاني، وروابط الولاء والجوار، الجذور والبذور والثمر، الشرق والهلينية، وامتداداتهما في الكوفة، كيف تأثّرت بهما، وكيف تجاوزتهما، وكيف أنتجت نموذجها، وكيف تأثّر بها من جاء بعدها، بحيث تبدو الكوفة في سياقها التاريخي إسهاما حضاريا، وحلقة هامة ومفصلية من حلقات التاريخ.
انتقد جعيّط المعرفة الأوروبية بالإسلام في كتابه "أوروبا والإسلام"، والذي سبق "الاستشراق" لإدوارد سعيد. وانتقد المعرفة التراثية التقليدية في أكثر من كتاب، لعل أهمها ثلاثيته عن السيرة النبوية (مشروع العمر)، التي اعتمد فيها القرآن الكريم مصدرا رئيسا، و"وثيقة تاريخية" أكثر مصداقيةً من كتب السير والمغازي، وفي كتابه، الاستثنائي، "الفتنة"، والذي ناقش فيه جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر. وهو في ذلك كله ينطلق من معرفةٍ عميقةٍ بالمصادر التراثية، واطلاع واسع على المناهج الحديثة في التاريخ المقارن للأديان، وعلم الاجتماع الديني، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، ... إلخ.
جاء هشام جعيّط إلى الحداثة من بوابات الحضارة العربية الإسلامية، ولم ير في "التراث" ومكوناته المعرفية عائقا عن التحديث، إنما في القراءة اللاتاريخية له، انشغل بالهوية.. مغاربيته، عروبيته، إسلاميته، اعترف بالخصوصية الثقافية، لكنه رأى في استخدام مصطلحات الهوية والخصوصية الثقافية لعرقلة الحداثة محض نفاقٍ وتضليلٍ كبير، فلا حداثة شرقية أو غربية، أفريقة أو يابانية. الحداثة كونية، ابنة الغرب، نعم، ثمرة نهضته، نعم، لكنها منتج كوني، وصل إلى الغرب بالتراكم والتفاعل الحضاري، والجهود المتواصلة للتحديث. وهنا يرى جعيّط أن العرب، وفق حقائق التاريخ، ساهموا، فعليا، في بناء الحداثة، وأنها انطلقت، بالأساس، من الأندلس، مع الثورة العلمية. تختلف الثقافات، وتتنوع، هذا واقع ومطلوب، ولكن من دون أن ينال ذلك من قدرة أصحابها على اللحاق بركب الحضارة والتقدّم.
راقب جعيّط الثورات العربية، ورأى أن المستقبل لها، على الرغم من هزائمها المؤقتة. لكنه، في واقعية قاسية، قال إن مجتمعاتنا ليست مؤهلة للديمقراطية الآن، وإن أمامنا مخاض طويل، وبرّر ذلك، في حواره الهام مع مجلة الفيصل، بأن "أساس الديمقراطية ليس الانتخابات. الأساسات هي القيم التي تستقيم عليها الديمقراطية، والقيم الأساسية هي الحريات، إذا أحسنا استعمالها، واحترام قيمة الحياة الإنسانية، وهذه هي أسس الديمقراطية، فكل إنسان فرد له حقوقه، والحقيقة أن هذه الأسس موجودة في التراث الديني، ولسنا في حاجة للبحث عنها عند الآخرين".

3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
3FE3B96A-2A94-45F9-B896-FDC0381B3B7F
محمد طلبة رضوان
محمد طلبة رضوان