هروب مؤلم

هروب مؤلم

28 ديسمبر 2020

(ليلى السعيدي)

+ الخط -

لفّ الحزن المجتمع عند شيوع خبر إنهاء طالبة جامعية مجتهدة حياتها فجأة، بعد أن تركت رسالةً بغير لغتها الأمّ، أي بالإنكليزية، وكأنها تريد أن تخاطب العالم أجمع، وليس فقط محيطها الوطني والإقليمي. ضمّت الرسالة عبارات صادمة، كان أكثرها وقعاً في النفس قولها "أنا لستُ ذاهبة إلى الجحيم، إنما خارجة منه".. عبارة تحيل مباشرةً على الجحيم الاجتماعي، استنادا إلى العبارة السّارترية "الآخرون هم الجحيم".
وإذا استدعينا أمرا في غاية الأهمية، أن الطالبة الجامعية كانت في تخصص علمي دقيق، مع ما يتطلبه من تفوق واستعداد ذهني، اكتشفنا أنها مجتهدة في تحصيلها، قطعت أشواطا، منذ البداية، للحصول على مؤهلٍ عالٍ يسمح لها بولوج هذا التخصص الدقيق. وبذلك فقد غمض والتبس الدافع المباشر إلى إنهاء حياتها بهذه الكيفية الصادمة، وأثار مجموعة من الأسئلة، إلى جانب أنها صاغت رسالتها الوداعية بالإنكليزية، ما يدُلّ على إلمامها كذلك بهذه اللغة التي استطاعت أن تطوّعها، لتصوغ منها عباراتٍ تنمّ عن تشابك عميق بأسئلة وجودية. ومن تحليلاتٍ راجت عن سبب إقدامها على الموت أنها كانت تعيش حالة اكتئاب شديدة الوقع، وهو ما قاله طبيب يعالجها في حسابه في "تويتر"، وقد أعلن تعاطفه معها.
من يتمعّن في الكلمات وما وراء معانيها الظاهرة لن يفوته الانتباه إلى أن المجتمع وتأويلاته وسجونه التي تأخذ تمثلاتٍ وأشكالا عديدة هي كذلك ضمن الدوافع لتوديع هذا العالم الذي وسمته بـ"الجحيمي". 
خلّف الخبر ردود أفعال كثيرة ومتنوعة، فكانت التعليقات والتحليلات يوم غيابها تتسيد وسائل التواصل، وخصوصا واتس أب، ناهيك عما امتلأ به "فيسبوك" و"تويتر" من ردود أفعال ونقاشات، اتسمت بالاستغراب أو التعاطف أو الاستنكار. وقد خصص الروائي الجزائري، واسيني الأعرج، مقاله الأسبوعي في صحيفة القدس العربي للحادثة، دان فيه الجحيم النفسي والواقعي الذي هربت منه الطالبة إلى هذه النهاية المفجعة. وقد برهن واسيني، وهو يفرد مقاله لهذه المأساة، على أنه من صنف المثقفين المتفاعلين مع مختلف نواحي الحياة، وليس ممن يعيشون في أبراجهم العاجية. وإذا كان يقيم في باريس، فهو ليس منبهرا بالغرب إلى الحد الذي يزعم كثيرون، فقد برهَن مجددا على أنه متفاعل مع شؤون المجتمعات العربية ومشاغلها وشجونها.
من تداعيات النهاية المفجعة التي اختارتها الطالبة لحياتها، إلى جانب التفاعل معها على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، أن كتّابا خصصوا، تحت شعار "منتدى عُمانيات"، حلقة عالجت دوافع الانتحار، ناقشت الموضوع من أكثر من زاوية، ما يؤكد أنها مأساةٌ من النوع الذي من شأنه أن يفتح مجالاتٍ أكبر للتفاعل، وإثارة الأسئلة المؤرّقة والحارقة في سبيل البحث عن تفسير وعلاج مستقبلي لمثل هذه الحالات التي تختار إنهاء حياتها، وخنق أي بوادر للأمل في مستقبلٍ قرّرت ألا تعيشه.
على الرغم أن الشابة كانت مفعمة بروح التعلم، فإن تلك الروح، على ما يبدو، لم تكن تستطيع أن تعبّر عن مواهبها، وتبرز شخصيتها خارج الأسوار الاجتماعية المُحكمة والشروط الصارمة، كما كتبت في رسالتها "ليس مسموحا لي أن أختار من أكون .. حاولتُ أن أحارب من أجل الحياة مرّات عديدة، لكنني فشلت". وكما قال جبران خليل جبران، وكأنما يعبر عن حالتها وحالة أشباهها: "ما أقسى أن تكون روحا تريد في جسدٍ لا يستطيع".. فكان أن أفصحت الفتاة عن شعورها بتعبيرين موجعين: الأول من خلال رسالتها التي احتوت عباراتٍ صدمت شريحة كبيرة من المجتمع، ما كانت لتكتبها بسهولةٍ لو كانت لا تزال على قيد الحياة، والثاني، الذي كان سببا للأول وأحد مداخله، أن تضع حدا لحياتها ومستقبلها في واقعٍ لم تكن ترى فيه إلا التضييق الخانق على روحها وتطلعها إلى مستقبل أفضل، فما كان منها إلا أن قرّرت الهروب بطريقة اليائس من كل شيء. لروحها الرحمة والسلام، ولأهلها وذويها وزملائها الصبر والسلوان.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي