هربوا عن طريق "الحرّسمّ"

هربوا عن طريق "الحرّسمّ"

16 سبتمبر 2021
+ الخط -

من مبلغ الأقوام أنّ السفارة السويدية اشتكت السفارة السورية في برلين، لأنّ مراجعي السفارة السورية المخاتلين يستخدمون "حرسمات" السفارة السويدية، يدّعون مراجعة السفارة السويدية، ثم يسرعون إلى حراسيمها الأنيقة والنظيفة، فالسفارة السورية التي تجبي الجزية من رعاياها في الخارج، فتمدّ لهم سنتين بختم على جواز السفر بأغلى سعر في العالم تحرم مواطنيها من حقهم في طرح الحرّ والسمّ من أبدانهم في حراسم السفارة، فعملها هو زيادة الحرّ والسم، وعلمت أنّ الأمر يجري على السفارة المصرية أيضا. الحرّسم لفظ قُلب من المسرح وهو نقيضه، لأنّ الممثل يواجه العامّة في المسرح، أما الحرّسم فهو المسرح الذي يختلي المرء فيه بنفسه، ويطرح فيه حرّه وسمّه. وقرأت أن المخرج المصري الشهير يوسف شاهين قدم ضيفا إلى التلفزيون السوري، وقبل مقابلته مع توفيق حلاق، طلب أمنيته الأخيرة، وهي الدخول إلى الحرّسم.

تستعير أدبيات إعلامنا الموقر أسماء كثيرة للحرسم تأنفًا من ذكره، وهربًا من جرس الحروف الخشن، وتكبرا على الضعف البشري. أحيانا يوصف بعبارات سياسية تبخيسية وتعويضية غير مضحكة، مثل؛ الكونغرس، البيت الأبيض، مجلس الشعب..

ننقل من صفحة توفيق الحلاق بعد تصرّف: "يا سادة يا كرام، لا يوجد حرسمات نظيفة في الطوابق الخمسة من مبنى الإذاعة والتلفزيون. طلبت من "الأمن" فتح مكتب المدير العام، فهو وحده يملك حرسما خاصًا به، ولم يذكر جنس حرس الأمن الموّكلين بالحرّاسم، أهو أمن سياسي أم عسكري أم جوّي. اتصل الأمن بقائدهم المظفر، ومن ثم بسعادة المدير العام بجلالة قدره حتى سمحوا للمخرج المصري الشهير بدخول الحرّسم في الرمق الأخير".

وعلمت، بعد أن فكّرت ونجّمت كثيرًا، أنَّ شرف العربي في حرسمه. يوسف الشاروني في مذكراته عندما كان يزور بيتا من بيوت صحبه يتحرسم لضيق خلقي في مثانته، يطلب إذنًا بدخول الحرّسم، فيستمهله أهل الدار، حتى يختبروا أمر الحرّسم ويعدّوه.

وقد استلطفتُ ربط حلاق الأجل بالحرّسم، فالمرء إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ، وقد تهبط الرئتان إلى منزلة المثانة، وتتبوأ الكليتان منزلة الرئتين، وهو الحال في معظم الدول العربية. واقعة يوسف شاهين التي يرويها الكاتب المصري أنيس منصور مشابهة، وهي قصة أصعب مهمة تلفزيونية كلفه بها عبد القادر حاتم، وزير الإعلام، قال له: "محمد علي كلاي في مصر في هيلتون". لم يطلب منه أن يلاكمه، وإنما أن يُجري حوارًا معه. فتحرّى عنه، فعرض الفكرة عليه، فرفضها فورًا. طبعًا هو اعتاد على الكاميرات، ولكن بفلوس، فخطرت له حيلة، فادّعى أن كل ملوك الأمة الإسلامية وأمرائها، يتقدّمهم الرئيس عبد الناصر، في انتظاره في الاستوديو، فوافق محرجًا. وقفزت مشكلة خطيرة أنه يريد أن يذهب إلى الحرّسم، ووجدنا جميع الحرّاسم مغلقة، لأنها أمن قومي، إلا حرّسم مكتب رئيس التلفزيون المرحوم محمد أمين حماد، ولم يحضر في ذلك اليوم، أما حراسم الموظفين فقد أغلقوها". تغلّب منصور على هذه المحنة بكذبة: قلت له: اسمع يا محمد (هكذا وردت في كتابه "الكبار يضحكون أيضا") أنا نسيت أن أقول لك إن هناك حديثًا نبويًا شريفًا يقول: إنّ المسلم لا يدخل الحرّسم إلا بعد الإفطار.

قبل الحركة التصحيحية التي صحّحت المسار السياسي، ونسيت تصحيح مسار الأخبثين، فتحرسم الشعب السوري وزاد معدل الحرّ والسمّ في جسمه، وكانت الحرّسمة أحد أنواع التعذيب في المعتقلات وأحد أساليب إكراه المعتقلين على الإقرار بذنوب لم يقترفوها.

الكتاب الأخضر يروي قصة دون شيرلي، وهو واحدٌ من أفضل عازفي البيانو في العالم، دُعي لإقامة حفلة، "فارتفع معدل الحرّ والسمّ في جسمه، فقصد الحرّسم، فمُنع عنه، هو يستطيع أن يجلس مع البيض، وأن يأكل معهم، لكن مشاركة الحرّاسم مع البيض ممنوعة، فهو أسود، لقد كان الحرّسم شرفًا يحرم البيضُ السودَ منه، فأخذ سيارة أجرة إلى بيته، وتخلص من حرّه وسمّه، وعاد إلى الحفلة. اشتكت السفارة السويدية التي تقابل السفارة السورية في برلين إليها، فهما متجاورنان ومبنيان في الشارع نفسه، من أنّ المراجعين السوريين يطرحون أحقادهم وسمومهم في حراسم السفارة السويدية، يدّعون زيارة السفارة للاستعلام، ثم يتحرّرون من الخريف في حراسمهم الربيعية، فموظفو السفارة السورية "البيض" يحرمون رعاياهم من مسِّ شرف حرسمهم بسوء.

إننا نسخّر النصف الأعلى من البدن لخدمة النصف الأسفل، ومعظم الصراعات البشرية تدندن حول الحرسم، حتى إن أسرى جلبوع الستة خلعوا الحرسم وهربوا.

683A43FF-D735-4EBA-B187-3AC9E42FAE32
أحمد عمر

كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."