هذه الشهادات الكاشفة من أسر سجناء مصريين
ناقش مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ضمن الدورة الثامنة والأربعين، سجل مصر الحقوقي، متضمّنة مراجعة مدى تحقق التزاماتها وتنفيذ التوصيات التي وجهت إليها في الدورة السابقة (2019) وتضمّنت وقائع الدورة الحالية عرض الوفد الحكومي تقريره، في 14 محوراً، ركزت معظمها على قضايا التنمية وتمكين الشباب والنساء وإبراز ملف اللاجئين. في المقابل قدمت الأطراف ذات المصلحة، بينها منظمات المجتمع المدني تقارير ركزت على الحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك رصد للقيود على حرية الرأي والتعبير والتنظيم، إضافة إلى وضع السجناء وظروف احتجازهم والتوسع في سياسة الاحتجاز (الحبس الاحتياطي). وارتباطاً بذلك، عرضت ثلاث شهادات لأهالي سجناء تعبر عن حجم الانتهاكات وصنوفها، وتتكامل مع تقارير الظل المقدمة من المنظمّات الحقوقية، وتردّ على التشكيك الحكومي المستمر، في دعاوى المدافعين عن حقوق الإنسان التي تهاجمها غالباً الحكومة وتعتبر بعضها عدائية.
تجسّد شهادات ليلى سويف، والدة السجين علاء عبد الفتاح، وجهاد خالد ابنة المحامية هدى عبد المنعم، ورشا قنديل، زوجة البرلماني السابق أحمد طنطاوي، قدر المظالم والانتهاك لحقوق السجين في محبسهم، أو في مرحلة التحقيق والتقاضي، غير طبيعة الاتهامات المحمّلة بـ خصومة سياسية، مع ثلاثة من معارضين، ينتمون إلى أجيال مختلفة، يظهرون رفضهم سياسات النظام ومنهاجه في ما يخص قضايا الحريات، ويظهر بعضهم رغبة جادّة في المشاركة السياسية، تقول عنها قنديل "لم نرتكب خطأ، مارسنا حقنا السياسي والدستوري وسنمارس كل حقوقنا المشروعة حتى نصل إلى البديل الديمقراطي".
تدحض شهادات المتضرّرين من أهالي السجناء الدعاية التي حملها الخطاب الحكومي في جنيف، حول تحسن الحريات
لا تقتصر الشهادات على تسليط الضوء على ممارسات السلطة، لكنها أيضاً تحمل تعبيراتٍ، دالّة على شعور أصحابها بغياب العدالة، وتراجع الأمل في إنهاء مظالم يلاقونها، وإن كانت قضاياهم تنال اهتماماً إعلامياً، فإنها تطرح التفكير في سجناء آخرين يتشاركون الحالة نفسها، أو ظروفاً أشد قسوة، كما تقول الأكاديمية ليلى سويف في شهادتها. إنها تخوض إضراباً وحشياً عن الطعام ممتدّاً من 30 سبتمبر، مطالبة بالإفراج عن ابنها الذي قضى عقوبة خمس سنوات في قضية نشر، لكن السلطات لا تريد احتساب عامين من الحبس الاحتياطي. تنتقل سويف في شهادتها بين الإقليمي والمحلي، من انتهاك حقوق الفلسطينيين في غزّة، وعدم اكتراث الحكومات لمأساتهم، في وضع عالمي سيئ جداً، إلى انتهاك حقوق المصريين في وطنهم، وتعبر ضمن رسائلها، عن أمنية أن تحيي ما تبقّى من عمرها في ظرفٍ غير استثنائي، من دون سجون، مع أولادها وأحفادها، وإعادة بناء حياتهم التي تهدّمت، طوال عشر سنوات بين السجون والمحاكم. وهي كما آلاف من حالات مشابهة لأسر، زُجّ ذووهم في السجون بموجب بنية تشريعية، بدأت في التشكل قبل عقد، ومثلت أداة لانتهاك الحقوق، ومنع كل سبل التعبير عن الرأي وتجريمه، بداية من قانون التظاهر (نوفمبر/ تشرين الثاني 2013) الذى حكم على علاء سيف بموجبه بالسجن خمس سنوات إلى قوانين تقنن الرقابة على وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي، وتجريم محتوها من آراء، واعتبار أصحابها متّهمين بإذاعة أخبار كاذبة.
وبموجب قانون مكافحة الإرهاب (2015)، جرى احتجاز المدافعين عن حقوق الإنسان ومعاقبتهم، كما تشير "هيومن رايتس" في تقرير لها، وعن تلك الترسانة تقول منظمة العفو الدولية في تقرير لها قدّم للاستعراض (يناير/ كانون الثاني – فبراير/ شباط 2025) إن تلك القوانين "جرّمت فعلياً ممارسة حقوق الإنسان، بما فيها الحقّان في حرية التعبير والتجمّع السلمي، وانتقصت من ضمانات المحاكمة العادلة، ورسّخت جذور الإفلات من العقاب"، كما استهدف صحافيين ومحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان، وبين ذلك تأتي شهادة جهاد خالد، ابنة المحامية، هدى عبد المنعم والتي تكشف حالة معاناة والدتها، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان (2012-2016) بداية من القبض عليها خلال 2018، وقضاء خمسة أعوام بالسجن في قضية اتهمت فيها بالانتماء إلى جماعة إرهابية، وتدويرها على ذمة قضيتين أخريين، وحالياً يستمر سجنها احتياطياً بالتُّهم نفسها، وهي تمر في ظروف صحية تحتاج إلى الرعاية (66 عاماً). تقول جهاد إن أمها لم ترتكب جريمة، كانت صوتاً للعدالة، وتعاقب على عملها المهني. وفي وقائع شبيهة، تفيد بأننا لسنا أمام "حالات فردية"، تأتي وقائع القبض على المحامي إبراهيم في سبتمبر/ أيلول 2017، من مطار القاهرة، خلال سفره إلى جنيف لتقديم شهادة "رابطة ضحايا الاختفاء القسري" ضمن فاعليات الدورة الـ 113 لمجموعة الأمم المتحدة المعنيّة بحالات الاختفاء القسري، وما زال متولي رهن السجن الاحتياطي، بعد إصدار النيابة قرارين بإخلاء سبيله في قضيتين سابقتين، ويواجه قضية ثالثة بالتُّهم نفسها، نشر أخبار كاذبة، وقيادة جماعة أسّست على خلاف القانون، ليبقى المحامي والأب الذي كان يبحث عن ابنه المختفي منذ 2013 سجيناً.
ستظلّ استراتيجيات التبرير والإنكار لانتهاكات الحقوق والحريات عاجزة عن إبراء ساحة السلطة أو الإيهام بحدوث إصلاح
وتأتي شهادة الإعلامية رشا قنديل دالة وشجاعة تحمل موقفاً سياسياً، وهي تتحدّث عن سجن زوجها أحمد الطنطاوي، و22 عضواً من حملته الرئاسية، بموجب الحكم عاماً، سيمنع من الترشح للانتخابات، علاوة على ذلك يواجه 14 اتهاماً، ما يعني أن السجن أصبح عقاباً على ممارسة السياسة. تصف قنديل حالة الحريات في مصر بأن السجن أصبح للجميع، بلا معيار، ويضم آلافاً من أصحاب الرأي والضمير، سواء الشباب المؤمن بالتغيير، أو نخب فوق سن الستين خوفاً من ندوة يحضرونها أو دراسة يكتبونها. ويحرمون بما تسمح به لائحة السجون من حقوق، وترى أن قضايا السجناء العرب متشابهة في سياقاتها وضحاياها. ومصرياً يمكن رؤية مدى التشابه عملياً، سواء في ظروف الاحتجاز، وأسباب (وأساليب) تقيد حرّيتهم، التي تقف خلفها رغبة في ترهيب المجتمع من السياسة، والتعبير عن الرأي. ومثالاً دالاً، يوضح التشابه المقاربة بين حالة محمد عادل، القيادي في حركة 6 إبريل، وعلاء عبد الفتاح. أمضى كلاهما ما يقارب عشر سنوات في التنقل بين السجون، ووجهت إليهما الاتهامات نفسها، ضمن ما درج تسميته تدوير السجناء، بما "يمسّ الثقة في منظومة العدالة، ويعد تعنّتاً وممارسات انتقامية تناقض أبسط مبادئ القانون والإنسانية"، كما تقول الحركة في بيانٍ لها صدر أخيراً.
تدحض شهادات المتضرّرين من أهالي السجناء الدعاية التي حملها الخطاب الحكومي في جنيف، حول تحسن الحريات، الذي يراد التدليل عليه بزيادة عدد وسائل الإعلام، ويساق الحوار الوطني دليلاً على حيوية المجال السياسي، أو تبرير الخروقات، والظروف والتحديات التي تواجهها الدولة خلال حربها على الإرهاب، أو الاضطرابات في الإقليم، التي تدفع إلى اتخاذ إجراءات استثنائية، كما أن استراتيجية إنكار الخروقات لا تنطلي على أحد، كما كيل الاتهامات لسياسيين، واعتبار، في الوقت نفسه، أن التهم الموجهة إليهم، جنائية، بينما هي تتّصل بحرية التعبير، وتستند، في أحيانٍ كثيرة، على منشور في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن أن يمدّد سجنهم احتياطياً، بتهمة نشر أخبار كاذبة وتكدير السلم العام إلى آخر التهم الفضفاضة. ومهم هنا تأكيد أن لا فصل بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وقضية الحريات. وقد شهد العامان الماضيان وقائع القبض على عمال ونقابيين طالبوا برفع الأجور لتناسب الأسعار، في ظل أزمة معيشية مؤشّراتها واضحة في التضخّم، ورفع الحكومة فواتير الخدمات الأساسية، في ظل ما يسمّى إصلاحاً اقتصادياً، متزامناً مع سداد القروض المتراكمة، التي يدفعها المواطنون المصريون من جيوبهم، وحين يحتجون على المعادلة الظالمة يقمعون.
شهد العامان الماضيان وقائع القبض على عمال ونقابيين طالبوا برفع الأجور لتناسب الأسعار، في ظل أزمة معيشية مؤشّراتها واضحة في التضخّم
تجعل كل هذه الممارسات أزمة السجناء في مصر مستمرّة، وحين تقول السلطة، دليلاً على مراجعة ملف السجناء، إنها أطلقت سراح 1434 من المحبوسين احتياطيّاً (من يناير/ كانون الثاني 2020 حتى يونيو/ حزيران 2023)، فإن باقي الرواية ناقصة، لأن آخرين انضمّوا إلى قوائم المحجوبين عن الحرية، ويتكشف من شهادات ذويهم قدر المعاناة، وضخامة الملف، حيث انضم إلى مبادرة أسر السجناء (يوليو/ تموز 2024) ما يزيد عن سبعة آلاف خلال أيام، يناشدون السلطة فكّ قيود ذويهم، (قدّموا مذكرة بذلك إلى لجنة الحوار الوطني) مقابل أي ضمانات، بعد أن تراجعت آمالهم في خروج أبنائهم عبر التقاضي، وقرارات النيابة، مع انتهاء فترة سجنهم الاحتياطي، وكذلك تبقى السلطة سيف التهديد مسلطاً، ففي وقتٍ تزيل مئات الأسماء من قوائم الإرهاب تضيف جدداً إليها.
وقبل هذا السجال في جنيف، يسأل الواقع الثقيل للسجناء وأسرهم، الذين يعانون منذ سنوات في رحلات البحث عنهم، وتكاليف زيارتهم والتقاضي، عن وعود أطلقتها السلطة، حول قوائم العفو، وتفكيك ملف السجناء، وإطلاق يد من لم تلوث أيديهم بالدماء، لكن هذه الوعود نتائجها محدودة، ويضاف إلى قوائم السجناء جدد في حملات متواترة، ويبقى الإفراج الصحي المستحق للكثيرين من المرضى والمسنين الذين يعانون ظروف الاحتجاز، ويساهم في ارتفاع عدد الوفيات بينهم، محدود.
إجمالاً، تكشف الشهادات الثلاث، وغيرها من وقائع مماثلة، قصوراً في متطلبات توفر محاكمات عادلة، مع توفر عنصر الخصومة السياسية، سواء مع من انتمي إلى تيار سياسي أو اشتغل بأعمال الدفاع عن السجناء، وارتباط قضايا عديدة بالحق في التعبير، وحرية البحث العلمي والنشر (كما حالة الباحث عبد الخالق فاروق)، وأيضاً العمل الإعلامي، تعرّض الصحافي والشاعر أحمد سراج، أخيراً، للاحتجاز، بسبب مقابلة مع ندى مغيث التي خضعت للتحقيق بسبب حديثها عن ظروف احتجاز زوجها الصحافي والمترجم أشرف عمر، وهذا يكشف، أيضاً، الضغوط التي تمارَس أحياناً على أسر الموقوفين وأنصارهم، وحتى المؤسّسات الإعلامية التي تثير قضاياهم، غير تقييد عمل، العاملين في مجال الدفاع عن السجناء. وأخيراً، وليس من باب التكرار، ستظلّ استراتيجيات التبرير والإنكار لانتهاكات الحقوق والحريات عاجزة عن إبراء ساحة السلطة أو الإيهام بحدوث إصلاح، ومبدئياً رد المظالم، حق واجب النفاذ، وحق للمصريين، قبل أن يكون التزاماً أممياً، في جنيف أو غيرها، وتوجيه الانتقاد إلى ملف مصر، لا يعني كما تقول السلطة، انتقاصاً من سيادة الدولة التي تستلزم حفظ كرامة مواطنيها وحقوقهم عنصراً أساسياً ودوراً لمؤسساتها المرتبطة بالتشريعات الوطنية (أهمها الدستور) وهو ما يوجب مراجعة ملف المحبوسين احتياطياً، وتطبيق الإفراج الصحي على من تنطبق عليهم الشروط، وإطلاق سراح المتهمين في قضايا الرأي، باعتبار ذلك خطوات سبق أن طرحتها عدة منظّمات حقوقية، وقوى سياسية، سواء في جلسات الحوار الوطني أو قبلها، وتوافقت أصوات قريبة من السلطة على الإفراج عن السجناء الذين لم يتهموا في قضايا عنف، وهم كثر، وحرّيتهم حقهم.