هذه البراغماتية الأميركية

20 فبراير 2025
+ الخط -

تسود العواصمَ الأوروبية حالةٌ من القلق بعدما خلط الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأوراق باتصاله بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في أفق إيجاد حلّ سياسي للأزمة الأوكرانية. ويتخوّف الأوروبيون من أن تُفسِح براغماتيةُ ترامب المجال أمام تبلور حلّ أميركي روسي متوافق عليه يضعهم خارج معادلة هذه الأزمة. ولعلّ ما يثير أكثر مخاوف أوكرانيا، وحلفائها الأوروبيين، قوله إن عودة أوكرانيا إلى حدود ما قبل 2014 تبدو ''غير واقعية".

تمثّل البراغماتية عصب السياسة الخارجية الأميركية، إذ تنبني على حساب دقيق للمكاسب والخسائر والتكاليف، في التعاطي مع الأزمات الدولية، مع استدعاء عوامل الظرفية وعلاقات القوة والمصالح وسلّم الأولويات؛ قد يبدو تعاطي ترامب مع الأزمة الأوكرانية مختلفاً عمّا كان عليه الأمر إبّان ولاية جو بايدن، الذي كان أكثر تشدّداً في تعامله مع الروس، برفضه الاعتراف بسيطرتهم على الأقاليم الأوكرانية التي احتلوها منذ 2014. لكن في الواقع، كلا الموقفين يصدران من البراغماتية نفسها، التي تجعل المواقف أكثر قدرة على التكيف مع الوقائع. وبمعنى أصح، إذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا (قبل ثلاث سنوات) قد مثّل تحدّياً استراتيجياً للولايات المتحدة، فهو الآن بات واقعاً، وعليه يمكن التفاوض مع روسيا على أساس انسحابها من الأراضي الأوكرانية كافّة، مع استعدادٍ أميركيٍّ لإبداء مرونة أكثر مع مسألة احتفاظها بالأقاليم الأوكرانية. أيضاً، يدرك ترامب أن خسارة روسيا نفوذها التاريخي في سورية، بكلّ أهميتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، حوَّل حربها مع أوكرانيا مسألةَ حياةٍ أو موتٍ، وقد يُفضي مزيدٌ من الضغوط عليها إلى تأجيج الصراع في بحر البلطيق، وتهديد الأمن والاستقرار في أوروبا. وهو ما يعني، وفق متلازمة المكاسب والخسائر والتكاليف، أن الأزمة الأوكرانية، في طورها الحالي، تتّجه إلى أن تصبح عبئاً على الإدارة الأميركية، في ظلّ انشغال الأخيرة بالتمدّد الصيني في أكثر من منطقة في العالم.

ينطبق هذا على الملفّ الإيراني، مع الأخذ بالاعتبار السياقات الجيوسياسية ذات الصلة بالصراع في الشرق الأوسط؛ فواشنطن، وإنْ ترى في طهران مصدر تهديد لحلفائها في الإقليم، إلّا أن مصالحها تقتضي أن تحتفظ بقدرٍ من القوة والنفوذ المتحكّم فيهما، كي تبقى مصدر تهديد طائفي ومذهبي لجيرانها، فيستمرّون في طلب الحماية وشراء الأسلحة الأميركية، وفي الوقت ذاته تبقى (طهران) في وضع لا يسمح لها بتهديد الأمن القومي الإسرائيلي. بالطبع، تدرك مراكز القوة والنفوذ في الولايات المتحدة أن إيران فقدت أوراقاً مهمّةً في الإقليم بعد الانتكاسة التي مُني بها حزب الله في حربه الماضية مع إسرائيل، وسقوط نظام بشّار الأسد في سورية، وبالتالي، قد يكون من المصلحة الأميركية الحفاظ على الوضع القائم، ما لم تتغيّر الأولويات الإسرائيلية ذات الصلة بما يحدث في قطاع غزّة. لذلك، تجد الإدارة الأميركية نفسها معنيةً بإعادة ترتيب أولوياتها، في ظلّ وجود بؤرتَي توتّر كبيرتَين (غزّة وأوكرانيا) قد تهدّدان، في حال عدم تطويق تداعياتهما الأمنية والجيوسياسية، السلم والأمن الدوليّين.

ليست البراغماتية الأميركية وليدة اليوم، فخلال الحرب الباردة، وفي ذروة الأزمة الأفغانية، لم تتردّد واشنطن في دعم كفاح المجاهدين الأفغان في مواجهة الغزو السوفييتي، فمدّتهم بالعتاد والسلاح عشر سنوات (1979-1989)، قبل أن تتبدّل السياقات الدولية والإقليمية والأولويات والمصالح، ويصبح أولئك ''المجاهدون''، في المنظور الأميركي، ''إرهابيين'' بعد أحداث "11 سبتمبر" (2001)، التي دفعت الولايات المتحدة إلى غزو أفغانستان من أجل القضاء على حكم حركة طالبان التي كانت إحدى تشكيلات المجاهدين الأفغان خلال الغزو السوفييتي.

يأخذ ترامب هذه البراغماتية إلى طور أكثر فجاجة بمنظوره التجاري الصرف للعلاقات الدولية، لكن ذلك لا يمنع من القول إن منظوره هذا يجد جذوره العميقة في الثقافة السياسية الأميركية، التي تشكّلت على مدار أكثر من قرنَين، وغدت حاضرةً في سلوك الطبقة السياسية وجماعات الضغط والمصالح المؤثّرة في القرار السياسي الأميركي.